أى نظام ديكتاتورى يحتاج إلى شيئين: جهاز أمن قوى، ومجموعة من المثقفين والإعلاميين. جهاز الأمن يخيف الناس بالاعتقال والضرب والتعذيب، إذا فكروا فى تحدى النظام، والمثقفون والإعلاميون يقومون بالدعاية للنظام فى محاولة مستمرة لتجميل صورته (أو بالأحرى إخفاء قبحه)، والزعم المستمر بأن النظام على العكس مما يظن الناس، ديمقراطى ورائع، ولا يبغى إلا مصلحة الشعب.
أعترف مع ذلك بأنى أحيانا تخامرنى بعض الشكوك فى مدى حاجة هذا النظام الديكتاتورى إلى خدمات المثقفين والإعلاميين، مادام لديه نظام بوليسى قوى. ما حاجتك إلى «إقناع الناس»، أو التأثير فى عقولهم، إذا كنت قادرا على إخافتهم باستمرار؟ بل ما هى الجدوى الحقيقية لكل هذه الجهود لتجميل النظام وإقناع الناس بغير الحقيقة، ونحن نرى أن كل مجهودات النظام الإعلامية، وكل صحفه وإذاعاته وقنواته التليفزيونية لا يبدو أنها غيرت رأى الناس فى النظام قيد أنملة؟ الناس تعرف، والنظام يعرف أنهم يعرفون، فما جدوى كل هذه الحملات الدعائية؟
هل المسألة لا تزيد عما يعنيه المثل العامى «العيار الذى لا يصيب يدوش؟»، أى أنه حتى لو لم تستطع كل هذه الدعاية للنظام تغيير رأى الناس فيه، فهى على الأقل تقوم بمهمة التشويش على الأصوات المعارضة، أو على الأقل (وربما كان هذا أهم) تحقق الدعاية الوظيفة التالية: وهى خلق الشعور لدى كل فرد معارض بأنه قد يكون وحيدا، وأنه ليس هناك من يشاركه رأيه السيئ فى النظام. «ألا ترى التليفزيون والصحف والإذاعة لا تكف كلها عن مدح النظام؟ هل يعقل أن يكون كل هؤلاء المادحين مخطئين، وأنت فقط الذى على صواب؟».
أيا كانت الجدوى الحقيقية للمثقفين والإعلاميين الذين يقومون بمحاولة تجميل النظام، فمن الواضح أن كل النظم الديكتاتورية تستخدمهم، بما فيها بالطبع نظام حكمنا الحالى. فهناك عدد لا يستهان به من المثقفين المصريين الذين كرّسوا أقلامهم لتجميل صورة النظام والدفاع عنه ضد معارضيه ومنتقديه. هؤلاء المثقفون متفاوتون طبعا فى الكفاءة والموهبة، والنظام يستخدم كلا منهم ويوزعهم على المناصب بحسب كفاءتهم وموهبتهم. ولكن يلفت نظرى من بين هؤلاء المثقفين حفنة ممن قد لا يزيد عددهم على عشرة، قريبون جدا من قمة النظام، وتجتمع فيهم الصفة التالية، وهى أنهم نالوا تعليما راقيا، إذ سافروا فى مطلع شبابهم فحصلوا على الدكتوراه من جامعات محترمة للغاية، فى العلوم السياسية أو الاجتماعية أو القانون. ويلاحظ أيضا أنهم لم يحصلوا على فرصة الدراسة بالخارج إلا بفضل التوسع الذى حدث فى الستينيات فى إرسال المبعوثين على نفقة الدولة، على أمل أن يعودوا ليضعوا علمهم فى خدمة بلادهم.
هؤلاء، كان الناس يستبشرون بهم خيرا فى الستينيات وأوائل السبعينيات، بأن يقدموا خدمات حقيقية لبلادهم، ولكنهم خيّبوا الآمال، إذ بمجرد أن لاحت لهم فرص تحقيق مكاسب مادية كبيرة (ابتداء من بداية عصر الانفتاح فى منتصف السبعينيات) لم يترددوا فى تغيير مواقفهم وأبدوا استعدادهم التام لخدمة صاحب الأمر والنهى فى السبعينيات أولا، ثم فى الثمانينيات والتسعينيات، ثم فى القرن الجديد ومازالوا حتى الآن يقومون بهذه المهمة التعسة.
أصيبت هذه الحفنة من المثقفين بالجزع الشديد من «ظاهرة البرادعى»، إذ أدركوا بحق أنه لو قدر لهذه الظاهرة النجاح لكانوا هم أنفسهم (وليس فقط الجالسون على قمة النظام) فى خطر شديد. فسقوط النظام معناه سقوطهم، وفضيحته فضيحتهم، فراحوا يكتبون باستماتة ملفتة للنظر لدحض حجج البرادعى وأنصاره، والسخرية من الدعوة للتغيير، إلى حد إنكار جدوى الديمقراطية نفسها، وراحوا يبحثون عن مختلف الحجج التى يمكن أن تخدمهم، مهما كانت درجة التلفيق التى يحتاجون إليها، وهو عمل لا يجيده إلا مثقفون من مستواهم العلمى، إذ سمح لهم تعليمهم فى أرقى الجامعات بالتدريب على استخدام المنطق (السليم والمعوج) للدفاع عن الرأى ونقيضه.
من ذلك مثلا مقال حديث لرئيس تحرير جريدة يومية حكومية، راح يدحض فيه حجج د.البرادعى ومؤيديه. من بين ما حاول تفنيده القول بإننا بحاجة إلى تغيير الدستور. إذ إنه لا يرى أى داع لذلك. فمواد الدستور التى فهمها الناس جميعا (المتعلمون وغير المتعلمين) على أنها تغلق جميع الأبواب أمام أى مرشح باستثناء اثنين هما رئيس الجمهورية الحالى ونجله، لا تؤدى فى نظر المثقف الكبير إلى إغلاق أى باب أمام أى مرشح. والدكتور البرادعى يستطيع بسهولة أن يرشح نفسه مستقلا، وله فرصة عظيمة للنجاح دون حاجة إلى أى تغيير فى الدستور.
الأفظع من هذا أن هذا المثقف الكبير لا يرى أى حاجة حقيقية للديمقراطية نفسها، التى يتغنى بها البرادعى وأنصاره. ويحاول أن يثبت ذلك إثباتا علميا. فكيف كان ذلك؟ لجأ إلى أسلوب الاستبيان والإحصاء الذى تعلمه فى جامعته الراقية بالخارج، وهو أسلوب لا غضاضة فيه بالطبع إلا عندما يستخدمه مثقفون من هذا النوع. قال إنه فى دراسة حديثة للرأى العام المصرى، قام بها مركز محترم للبحوث (كان هو نفسه رئيسا له عندما أجريت هذه الدراسة)، تبين أن نسبة المصريين المهتمين بقضية الديمقراطية لا تزيد على 1٪ (واحد فى المائة). هل هذا معقول؟ نعم، ولكن باستخدام بعض الألفاظ الأكثر تهذيبا. فهو يقول إن المصريين (طبقا لهذا الاستبيان) يعتقدون أن أهم مشاكلهم البطالة (46٪) والفقر (27٪) والفساد (13٪)، أما نسبة الذين قالوا إن «تعزيز الإصلاح السياسى» يجب أن تكون له أولوية «المعالجة من قبل الحكومة» فهى فقط 1٪. إنه يريد منها بالطبع أن نفهم من هذا أن نسبة المصريين الذين يمكن أن يؤيدوا مطلب البرادعى فى الإصلاح الديمقراطى هى نسبة تافهة للغاية.
فات المثقف الكبير أن التعبير عن الديمقراطية بعبارة «تعزيز الإصلاح السياسى» يمكن أن يساء فهمه فيظن به مجرد استمرار الحكومة فى التدجيل على الناس بالزعم بأنها تبذل الجهود فى سبيل الإصلاح السياسى وتحقيق مزيد من الديمقراطية، وأن السؤال هو ما إذا كان الناس يريدون «تعزيز هذه الجهود». أنا شخصيا أرى أن جهود الحكومة فى الإصلاح السياسى لا تحتاج إلى تعزيز بل تحتاج فقط إلى من يفضحها ويظهرها على حقيقتها.
لنفرض أن الأسئلة فى هذه الدراسة صيغت بطريقة أخرى فتضمنت مثلا السؤال الآتى: «هل تعتقد أن انتقال رئاسة الجمهورية من رجل إلى ابنه، ومن هذا إلى ابنه، وهكذا، هو شىء مفيد ومرغوب فيه ويتفق مع الديمقراطية؟» فكم هى يا ترى النسبة من المصريين التى سوف توافق على هذا؟
لم يكتب المثقف الكبير بهذا بل لفت أنظارنا بشدة إلى أنه عندما سئل المصريون، فى نفس الاستبيان، عن الدولة التى يعتبرون نظامها نموذجا جديرا بأن تحذو مصر حذوه، أجابت أعلى نسبة منهم (38٪) بأن هذه الدولة هى المملكة العربية السعودية، بينما لم تحصل الصين مثلا إلا على 20٪ واليابان 14٪ وفرنسا 3٪.
والرسالة التى يريد الكاتب الكبير توصيلها لنا واضحة كالشمس، وهى أنه لو فتح الباب للترشيح لرئاسة الجمهورية، لكل من هب ودبّ، كان الدكتور البرادعى وأمثاله، فلن يأتى إلى الحكم إلا المتدينون المتعصبون الذين سيحولون حياتنا إلى جحيم، خاصة الأقباط، والعلمانيين، والنساء. لم يذكر الرجل الأقباط والعلمانيين بالاسم، ولكنه انتهز الفرصة لتخويف النساء بالذات بالإشارة إلى ما حدث أخيرا فى مجلس الدولة من معارضة لتعيين المرأة قاضية.
إن الرجل رأى من الحكمة ألا يذكر الإسلاميين بالاسم، فى أى جزء من المقال، وهم الذين يحاول أن يخيف الجميع منهم، وإنما فضّل فقط أن يقول إن هدفنا هو إقامة «الدولة المدنية الحديثة»، وكأن النظام الذى يدافع عنه، والدستور الذى يحتوى على كل هذه المواد المعيبة ولا يريد تغييره، هما أفضل السبل لتحقيق هذه «الدولة المدنية الحديثة»، أو لعلهما هما هذه «الدولة المدنية الحديثة» التى يتمناها.
لم ير المثقف الكبير أى فائدة بالطبع فى التساؤل عن مدى مسئولية النظام الحالى الذى يتفانى هو وزملاؤه فى خدمته، عن كل المشاكل الأخرى التى يعلق المصريون أهمية عليها (عدا «تعزيز الإصلاح السياسى») كالبطالة والفقر والفساد، بل ومسئولية هذا النظام عن نمو التطرف الدينى والتفكير اللاعقلانى الذى يحاول الرجل إثارة خوفنا الشديد منه. إذ عندما يرى الناس أن «العقلانيين» يتصرفون ويكتبون على النحو الذى يتصرف ويكتب به هذا المثقف الكبير، يصبح الملاذ الوحيد المتاح هو التشنج والتعصب واللاعقلانية.