منذ بضعة أسابيع رفض رئيس وزراء إسرائيل، بنيامين نتنياهو ــ وقد أخذته العزة بالاثم ــ عرضا تلقاه من صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية تدعوه فيه إلى كتابة مقال تنشره له الصحيفة. أمام الأسباب التى ساقها لرفض العرض، كما ورد فى خطاب مستشار نتنياهو الذى وجهه للصحيفة، فكانت هى دأب محررى الجريدة على تشويه مواقف الحكومة الإسرائيلية، وتجاهل الخطوات التى تتخذها من أجل تحقيق السلام!. وأضاف المستشار فى خطابه أنه يبدو أن التعريض بإسرائيل قد أصبح الوسيلة المثلى التى تضمن للكاتب قيام الصحيفة بنشر مقاله، وبصرف النظر عن وزن الكاتب ومكانته!. ولم يكتفِ مستشار نتنياهو بذلك بل قرر فى رده أنه قد أحصى مقالات الرأى التى نشرتها الصحيفة على امتداد فترة زمنية امتدت لثلاثة أشهر، فتبين له أن مقالا واحدا فقط من بين 20 مقالا كان إيجابيا فى صالح إسرائيل. أما باقى المقالات التسعة عشر فقد جاءت معادية تماما لإسرائيل ولحكومتها!.
●●●
الغريب أن النيويورك تايمز، التى يهاجمها نتنياهو ومستشاره، تمتلكها عائلة سولزبرجر اليهودية منذ نهاية القرن التاسع عشر، ولم يعرف عنها تحيزها للجانب العربى فى النزاع العربى الإسرائيلى أو حتى وقوفها على الحياد تماما. صحيح أن بعض الافتتاحيات تجىء منصفة فى معالجتها للنزاع، إنما الافتتاحيات المنحازة لإسرائيل تزيد فى المواقع عن تلك المنتقدة لها.
والأغرب أن نتنياهو قد أسر لرئيس تحرير صحيفة جيروزاليم بوست الإسرائيلية عن اعتقاده بأن ألد عدوين لإسرائيل (ليسا إيران وحماس كما توهمت الجيروزاليم بوست) بل هما صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية، وصحيفة هاآرتس الإسرائيلية، مؤكدا أنهما يقومان بوضع أجندات الحملات المعادية لإسرائيل، التى تنطلق على أثر ما تكتبه الصحيفتان، فى جميع أنحاء العالم.
وكأن النيويورك تايمز تحرص بالفعل على عدم التئام جراح نتنياهو، وذلك بنشرها مقالا للمحرر الشهير توماس فريدمان وصف فيه الحفاوة التى قوبل بها نتنياهو فى الكونجرس الأمريكى فى مايو من العام الماضى، ووثوب الأعضاء المتكرر من على مقاعدهم مصفقين لحوالى ثلاثين مرة، بأن تلك المسرحية جرى تمويلها وسداد ثمنها مقدما من قبل اللوبى الإسرائيلى، ولا تعبر بأى حال عن تأييد الكونجرس لسياسة نتنياهو!
●●●
ولا يبدو أن المعركة بين نتنياهو والصحيفة الأمريكية ستشهد هدوءا فى القريب، فقد تعرضت الصحيفة فى مقال فى أبريل الماضى إلى العلاقات الحميمة التى تربط بين نتنياهو وبين منافس أوباما اللدود فى الانتخابات الرئاسية القادمة، ميت رومنى، المرشح الجمهوررى، وتنسيق المواقف بينهما، بل وكشفت القضايا عن الدور الذى لعبه نتنياهو قبل ذلك فى حث بليونير يهودى على دعم حملة مرشح جمهورى آخر، لكن ما لبث هذا المرشح أن انسحب من السباق الرئاسى. انبرى سفير إسرائيل فى الولايات المتحدة مايكل أورين للدفاع عن رئيس وزرائه، مؤكدا أن إسرائيل لا ولن تتدخل فى الشأن الداخلى الأمريكى. بقى طبعا أن يصدق أى متابع للشأن الأمريكى مثل ذلك الزعم من قبل السفير.
وما دمنا نتحدث عن ذلك السفير المفوَّه، فلا بد أن نشير أنه يقابل بالاحتجاجات فى كل مكان يزوره فى الولايات المتحدة. قوبل بهجوم لاذع فى جامعة كاليفورنيا منذ فترة، وحمل الطلبة المحتجون حينئذ لافتة تقوم أنه يمثل دولة تنتهك القانون الدولى والقانون الدولى الإنسانى باستمرار. وحديثا وفى يوم 30 أبريل الماضى، قام طلبة من جامعة جورج واشنطن فى العاصمة الأمريكية، بالانسحاب من محاضرة كان يلقيها السفير رافعين شعارا بأن الطريقة المثلى للقضاء على الإرهاب هو عدم ممارسته (من جانب إسرائيل). كما حدثت مواجهة مؤخرا بين السفير وبين محطة تليفزيونية CBS حول تقرير بثته المحطة حول وضع المسيحيين فى إسرائيل وفى الضفة الغربية.
●●●
إذن لم تعد إسرائيل معصومة من النقد، ولكن بدلا من أن تحاول الحكومة الإسرائيلية الإصلاح من سياستها أو العدول عن ممارساتها، تجدها ممعنة فى تصرفاتها التى تجلب عليها السخط من حيث لا تحتسب. خد مثالا آخر عن انحسار ذلك التأييد التلقائى فى أمريكا لما يصدر عن إسرائيل. كتب البروفيسور بول كروجان الحاصل على أكبر جائزة عالمية فى عالم الاقتصاد، مقالا يوم 25 أبريل الماضى، يقول فيه إن السياسة التى تتبعها الحكومة الإسرائيلية الحالية والتى وصفها بضيق الأفق، هى أنجع الطرق لاقتراف الانتحار السياسى. غير أنه اعترف فى نفس الوقت بأنه يتجنب انتقاد إسرائيل علنا تحسبا لرد الفعل اليهودى، والهجوم الذى يمكن أن تشنه عليه جماعات معينة تعتبر أن أى نقد للسياسة الإسرائيلية هو مظهر من مظاهر معاداة السامية! على الفور قامت منظمة يهودية أخرى جعلت من السلام شعارا لها وهى جمعية (J Street) بحث البروفيسور كروجمان على عدم الخضوع لأى ابتزاز من قبل الدوائر الصهيونية، ودعته إلى عدم الالتفات لمواقف تصدر عن أقلية مهما ارتفع صوتها أو علا ضجيجها.
لا يفوتنى أيضا أن آتى على ذكر كتاب صدر حديثا بعنوان «أزمة الصهيونية»، للأستاذ الجامعى والكاتب الصحفى اليهودى بيتر بينارت. كان هذا الكاتب قد حضَّ فى شهر مارس الماضى على ضرورة مقاطعة منتجات المستوطنات الإسرائيلية، مشيرا إلى التمدد الاستيطانى المخيف فى الضفة الغربية حتى لم يعد لما كان يطلق عليه بالخط الأخضر، أى إشارة فى المراجع الإسرائيلية، أما كتاب بينارت الجديد فيتعرض للعلاقة الشائكة بين الولايات المتحدة وإسرائيل، وكيف تتعامل أمريكا مع الأخيرة التى لا تستجيب للنصائح الأمريكية ولكنها فى نفس الوقت، تزيد من انغماسها ومشاركتها فى الشأن الأمريكى. ويعتقد المؤلف فى ضرورة خوض معركة لإنقاذ ما يطلق عليه الصهيونية الليبرالية (وهو أحد دعاتها) من براثن المؤسسة الصهيونية المتطرفة التى تجارى بطريقة عمياء سياسة اليمين الإسرائيلى ومواقف نتنياهو المتشددة. ويلقى المؤلف باللوم على نتنياهو فى تحويل مواقف منظمة الإيباك (أقوى لوبى إسرائيلى فى الولايات المتحدة) بعيدا عن مصلحة إسرائيل الحقيقية، وكذلك نجاحه فى إحداث انحراف فى سياسة أوباما عن مقاصدها الأصلية، معتبرا أن ذلك يعد مأساة تاريخية.
●●●
ما ذكرته آنفا ليس إلا قليلا من كثير مما تعج به الساحة الأمريكية من مواقف، ومن تطورات، تطال مواقف تقليدية كنا نحسب أنها ستظل راسخة رسوخ الطود. ولاشك أن القارئ الكريم يلحظ معى أن تلك الأنباء والتطورات التى تحدث داخل المجتمع الأمريكى، وداخل الجالية اليهودية فى أمريكا، أو فى أوروبا، لا تجد طريقها إلى أجهزة الإعلام المصرية سواء المرئية أو المسموعة أو المقروءة. صحيح أن الأمر الداخلى هو همنا الأكبر، غير أن مثل هذا التجاهل من قبل إعلامنا لتلك التطورات على الساحة الدولية كفيل بتسرب اليأس إلى النفوس، وفقدان الأمل فى ظهور أى موقف منصف لقضايانا أو داعم لجهودنا.
وحقيقة الأمر، أن المتابع لما يجرى، سواء على الساحة الأمريكية، أو الأوروبية، سيكتشف أن الموقف من قضايانا، ليس حالك السواد كما قد يبدو، فهناك أصوات جريئة تسعى جاهدة لبيان الحقيقة وكشف ما يرغب البعض فى إخفائه. وعلينا نحن استغلال تلك التوجهات من أجل دعم مواقفنا وخدمة مصالحنا