من محطات الفرح الدائم والوزارات المتخصصة فى السعادة إلى مسلسلات رمضانية لا تحمل سوى كثير من الحزن والنكد المعلَّب فى القطيفة المعتقة القادم على أصوات أنغام الحزن القديمة.. يا ترى ما كل هذا التناقض فى الواقع الخليجى اليوم، ما كل هذه الازدواجيات المستمرة.. صفحات الاقتصاد تتحدث عن كوارث اقتصادية حالية أو قادمة سريعا فيما صفحات المجتمع وأخبار الدولة وغيرها منغمسة فى فعل البذخ المفرط حتى يخيل للمرء أن بعضهم لا يزال يعيش ألف ليلة وليلة أو أنه فى حالة انفصام كلى عن الواقع أو ربما هروب منه إلى نفس تلك الفقاعة التى تحدَّث عنها الكثيرون منذ سنين وليس الآن وحذر آخرون منها..
***
الأرقام تقول الكثير وهى الأكثر قربا من الواقع بالطبع عندما تتحدث عن انخفاض عائدات النفط وتأثيرها على ميزانيات الدول إلى جانب عوامل عديده ليس أولها ارتفاع نسبة البطالة بين الشباب ولا آخرها البدء فى فرض ضرائب بتسميات مختلفة. ومن تخلى الحكومات عن الدور الذى اتخذته لنفسها لسنين عديدة أى صاحب العمل الأكبر فى كل بلد خليجى بحيث أصبح أكبر طموح للشاب أو الشابة هو وظيفة حكومية بمرتب معقول أو فى بعض الدول أكثر من جيد ودوام أو ساعات عمل معدوده تتيح للفرد كثيرا من الوقت للانغماس فى الملذات اليومية، من كل ذلك إلى القول إن الحكومات لم تعد مسئولة عن تشغيل المواطنين والمواطنات وأن على القطاع الخاص أن يتحمل مسئولياته، نفس ذلك القطاع الذى هو الآخر يعانى فى الكثير من تلك الدول الإهمال أو الإجحاف فى مجتمعات تكره الصناعة وتفضِل أن يكون الفعل الاقتصادى الأكبر هو التجارة فقط وربما بعض السياحة.. هو القطاع المريض أصلا بالربح المرتفع نتيجة العمالة الوافدة الرخيصة تلك التى اعتاد استغلالها ــ رغم كره الكثيرين لذلك التوصيف ــ حتى إنه أصبح يزدرى السياسات التى تفرض عليه تشغيل المواطن بدلا من الوافد فلا المواطن متعود على العمل الجاد ولا هو يقبل بمرتب الوافد الذى اضطره الفقر والعَوَز فى بلده أن يقبل بأن يكون مجرد «عبد» بمسميات وحجج مختلفة وإلا كيف نفسر نظام الكفيل!!!
فى ظل كل ذلك من نمط تشغيل مشوه إلى اقتصاد أكثر تشويها يعتمد على الفقاعات التى تأتى ربما بكثير من الصدى الإعلامى والبهرجة إلا أنها غير مستدامة فى الكثير من الأحيان. وهنا يجد المرء نفسه أمام تناقضات مستحيلة فمن صورة لمجتمعات خليجية مرفهة حتى الثمالة إلى مسلسلات تحكى واقعا مريرا ومواطنين ومواطنات ككل البشر يعانون الكثير من المشكلات وربما كثير منها جاء نتيجة لتلك السياسات والعلاقات المشوهة أصلا وإلا فكيف نفسر الركض المستمر على بناء الأسواق الفاخرة فيما لا تزال المدارس والمستشفيات والخدمات الأساسية منخفضة المستوى.. ما معنى أن يكون لدينا أكبر محلات شانيل أو لوى فيتون أو أن يمتطى رجال الدولة سيارات المبرجينى أو الفرارى فيما لا يزال الكثير من المرضى مضطرين للعلاج فى الخارج أو الطلاب أين يلتحقون بالجامعات العالمية حتى بعد حضور بعض هذه الجامعات بهياكل تقيمه فوق رمال الصحراء القاحلة طامحة أن تتحول المبانى إلى مراكز إشعاع للعلم والثقافة والانفتاح وتقبل الآخر أو فى أقل تقدير احترامه..
***
صور متناقضة لواقع يبدو أكثر صعوبة مما يطمح بعض الإعلام الخليجى تصويره، أى المجتمع المتناسق، المتناغم، المتكافل وخاصة فى رمضان، حيث تأتى كل البرامج التى تخيَب أمل أكثر المتفائلين حين ترافق برامج الضحك والسخرية مسلسلات الحزن الدائم أو النكد أو تلك التى تصور مجتمعات غاية فى التفكك والتناقض.. مجتمعات تسيطر عليها الماديات وهذا الآخر ليس مرضا خليجيا ولكنه يتناقض فقط مع الصورة المرسومة لمجتمعات الخليج على أنها خارج هذا العالم بمثالياتها وبُعدها عن كل الرذائل أو الأمراض الإنسانية العامة.
بين هذا وذاك لا يعرف الخليج أين يضع الدين اليوم وفى أى إطار فهو إما متهم بأنه يدعم داعش وأخواتها وإخوانها أيضا أو أنه فقط مجتمع متدين بالمعنى الإيجابى للتدين، أى أنه مجتمع تسوده الرحمه والتكافل فيما محاكم الأحوال الشخصية تحكى قصصا مناقضة لذلك، حيث العائلات المتحاربة على إرث هنا أو هناك أو على بضعة دنانير وريالات ودراهم.. ذاك ما تحكيه المسلسلات ربما لكون بعض كُتّاب السيناريو يعملون على الدفع بأن يستيقظ المجتمع والدولة أيضا من سباتهما العميق، ولكن أليس فى ذلك كثير من النكد أيضا، ولماذا تخصيص رمضان ليكون هو المرآة العاكسة لتلك المجتمعات أو لتلك الصورة المتناقضة؟ أسئلة بحاجة لأن يجيب عنها مسئول.. وكيف يستطيع وهو المشغول بإرسال ابنه الأصغر لافتتاح ندوة أو دورة أو جلسة ولا يخجل بعد ذلك من أن تتصدر تلك الصور للطفل أمام حشود من الرجال والنساء صفحات الصحف فى اليوم التالى.