من منا لا يحب أن يرى تراث أمته مصُونا ومحترما، من جانب أفراد أمته ومن الغرباء على السواء؟ ومن منا لا يحب أن يرى أمته تتقدم دائما فى شتى مجالات الحياة: فى الاقتصاد والعلاقات الاجتماعية، وفى العلم والآداب والفنون؟
نحن جميعا نحب هذا وذاك.. المشكلة إذن ليست فى إنكارنا لأهمية هذين الهدفين، ولكن فى أن العمل من أجل أحدهما يمكن أن يعرقل سعينا نحو الهدف الآخر. المشكلة ليست فى أننا لا نرغب فى صيانة التراث، أو فى أننا لا نرغب فى التحديث والتقدم، بل إننا قد نتخذ موقفا من التراث يعطل عملية التحديث، أو قد نمضى فى طريق التحديث على نحو يسىء إلى التراث. بل من الممكن جدا (وقد حدث لنا هذا بالفعل) أن نرتكب ما يسىء إى كلا الهدفين فى نفس الوقت.
كم هى سعيدة الحظ تلك الأمم التى بدأت عملية التحديث (أو ما يسمى أحيانا بالنهضة) قبل غيرها، فكان التجديد عندها منبعثا من التراث ومبنيا عليه. كان هذا هو خط العرب عندما بنوا الحضارة العربية الإسلامية، فأحدثوا نهضتهم بناء على تقاليدهم وقواعد دينهم، وليس بالاقتباس من تقاليد وتراث غيرهم. وكان هذا هو أيضا خط الأوروبيين، عندما أسسوا نهضتهم فى العصر الحديث دون التنكر لتراثهم. نعم إن التحديث فى الحالتين استلزم إعادة تفسير، للتراث والتقاليد الموروثة، ولكنه لم يقترن فى الحالتين بالتنكر للتراث، وما يصحب ذلك من تعذيب للنفس، وهو ما حدث للأسف عندما حاولنا اقتباس التحديث من غيرنا فى العصر الحديث. ذلك أن التحديث المقتبس من الغير أكثر مدعاة لاحتقار القديم وجلد الذات، إذا قورن بالتحديث المنبثق بشكل طبيعى من داخل الأمة نفسها، فيستمر أفراد الأمة فى التعبير عن أنفسهم وآمالهم بلغتهم القومية دون اعوجاج فى اللسان، ويطورون آدابهم وفنونهم من النقطة التى تركها عليها آباؤهم.
●●●
ظلت المشكلة هينة نسبيا فيما يتعلق بمصر والمصريين طوال فترة القرن ونصف القرن التى تلت بداية اتصال مصر بالغرب الحديث بقدوم الحملة الفرنسية إلى مصر فى 1798. لقد اتخذ الفرنسيون بضع خطوات مهمة نحو تقريب مصر من العالم الحديث، ثم ضاعف محمد على من هذه الجهود طوال نصف القرن التالى، ولكن مصر عندما ترك محمد على الحكم فى منتصف القرن التاسع عشر، لم تكن قد تنكرت لتراثها بأى درجة تدعو إلى القلق. كانت فترة حكم الفرنسيين أقصر من أن تحدث ضررا بليغا بموقف المصريين من تراثهم، (إذ لم تدم أكثر من ثلاث سنوات)، وكان حكم محمد على، رغم طوله، أكثر رفقا بكثير بتراث المصريين من الحكام التاليين له. كان محمد على، على أى حال، حاكما مسلما، وهو إن لم يكن عربيا فقد عمل، بوعى أو بغير وعى، هو وابنه إبراهيم، على توحيد العرب. وهو وإن كان قد أرسل البعثات العلمية إلى فرنسا، فإنه فرض على المبعوثين بعد عودتهم أن يساهموا فى مشروع للتحديث لا يتنكر للتراث.
كان مما سهل مهمة محمد على، من حيث بدء عملية التحديث دون الإضرار بالتراث والخروج عن التقاليد، أن أوروبا نفسها، التى كا يقتبس منها عوامل التحديث، كانت لا تزال فى أوائل عصر الثورة الصناعية، فلم يكن الفارق بين أوروبا وبين البلاد الأقل تقدما، كبيرا بالدرجة التى نعرفها اليوم. بل لقد قدر البعض أن متوسط الدخل فى إنجلترا وفرنسا (وكانا أعلى الدول الأوروبية دخلا فى ذلك الوقت، ومن ثم أغنى دول العالم قاطبة) لم يكن يزيد على ضعف مستواه فى مصر (بالمقارنة بأكثر من 15 ضعفا الآن).
يمكن إذن أن نعتبر أن التحديث الذى يقترن بخروج على التقاليد والتراث فى مصر، بدأ بعد انتهاء عهد محمد على وبقدوم سلسلة من الولاة (باستثناء حكم عباس الأول القصير) المفتونين بالغرب إلى درجة الهوس، ثم يجىء الاحتلال الإنجليزى فى 1882. ومع ذلك فلابد من الاعتراف بأن المشكلة (مشكلة التعارض بين التحديث والتراث) ظلت خفيفة الوطأة نسبيا حتى الربع الأخير من القرن العشرين، لأسباب تتعلق أساسا بحجم وطبيعة الطبقة الوسطى التى عرفتها مصر حتى ذلك الوقت، وهى الطبقة التى حملت لواء التحديث فى مصر وعبّرت فى نفس الوقت عن الموقف السائد من التراث.
●●●
ظلت الطبقة الوسطى المصرية حتى ثورة 1952 صغيرة لا تتجاوز نحو خمس السكان، بينما ظلت الغالبية العظمى من المصريين (لا تقل نسبتهم كثيرا عن 80٪ من السكان) مهمشين ومعزولين عن الحياة الحديثة، بحكم انعزال القرية المصرية عما يجرى فى الغرب. كان هذا التهميش أو الانعزال نقمة لا شك فيها من حيث حرمان الغالبية العظمى من المصريين من مزايا الحياة الحديثة، ولكنه كان يحقق نوعا من الحماية والصيانة (وإن كان نوعا سلبيا للغاية) للتراث.
ساعد على هذه الحماية والصيانة أيضا أن نمو هذه الطبقة الوسطى خلال هذه الفترة، وصعود أفرادها من شرائح المجتمع الدنيا، كان يعود أساسا إلى التعليم، وهو سبب يمنح صاحبه ثقة كافية بالنفس، وهو أيضا عامل بطىء الأثر فلا يصاب صاحبه بمختلف أنواع التوتر والرغبة فى التظاهر بما ليس فيه. ليس من الغريب إذن أن ظلت الطبقة الوسطى المصرية طوال هذه الفترة، أى حتى بداية الربع الأخير من القرن العشرين، طبقة تجمع بين عدد من الصفات الطيبة: طبقة منتجة، واثقة من نفسها، تحتفظ باحترامها لتراث الأمة، ولكنه احترام حقيقى لا يختلط لا بالرغبة فى التخلى عنه مجاراة لضغوط التحديث، ولا بالمبالغة فى التظاهر بالتمسك به.
ظل التراث إذن خلال هذه الفترة السابقة على الربع الأخير من القرن العشرين، صامدا أمام تهديد عملية التحديث، لأسباب تتعلق بالطبقة الوسطى المصرية، ولكن كانت هناك أسباب أخرى لهذا الصمود تتعلق بطبيعة عملية التحديث ذاتها.
لقد ظلت علمية التحديث خلال هذه الفترة بطيئة بدورها بسبب بطء النمو فى متوسط الدخل حتى منتصف القرن العشرين، وكذلك بسبب البطء النسبى فى أساليب الاستهلاك فى البلاد التى تأتى منها عملية التحديث (وهى أوروبا) لقد ظل نمط الاستهلاك الحديث فى مصر حتى منتصف القرن العشرين محكوما فى الأساس بالنمط الاستهلاكى الأوروبى لا الأمريكى، ليس فقط بحكم خضوع مصر للاستعمار الأوروبى حتى ذلك الوقت، ولكن أيضا لأن النمط الأمريكى للحياة لم يبدأ فى غزو العالم إلا فى أعقاب الحرب العالمية الثانية. من المفيد أن نتذكر كيف كانت شوارع المدن المصرية (ناهيك عن القرى) لا تكتظ لا بالسيارات ولا بالمحال التجارية، وكيف كان الراديو وليس التليفزيون هو الوسيلة الوحيدة لنشر الأخبار وللتسلية، وكيف كانت موضوعات الأفلام السينمائية المستوردة (بما فى ذلك الأفلام الأمريكية فى ذلك الوقت) أقل استفزازا للنزعات الاستهلاكية والإباحية، ومن ثم أقل تحديا لتراث وتقاليد المصريين.
●●●
كان الربع الثالث من القرن العشرين (1952 ــ 1970) فترة سريعة الإيقاع فى تحديث مصر، بسبب ثورة 1952 ومشروعات عبدالناصر فى التنمية، ولكنها كانت أيضا فترة خفيفة الوطأة فى تعاملها مع تراث المصريين. نعم، لقد عامل عبدالناصر الجماعات الإسلامية بقسوة غير معتادة (إلى حد إعدام بعض زعمائها فى منتصف الستينيات) ولكن عبدالناصر قبل أيضا أشياء أخرى كانت أقل قسوة فى التعامل مع تراث المصريين وتقاليدهم مما عرفه المصريون فى الأربعين عاما التالية لانتهاء الحقبة الناصرية.
لا يجب أن ننسى أولا العزلة النسبية عن بقية العالم، التى فرضها نظام عبدالناصر على مصر، بسبب طبيعة النظام الاقتصادى الذى شرع فى تطبيقه، ورغبة فى حماية صناعاته الجديدة من المنافسة الخارجية. ترتب على ذلك أن المصريين ظلوا محرومين فى عهده من سلع الاستهلاك الجديدة، حتى أصبح دخول سلع كجهاز للتسجيل أو الملابس الفاخرة المصنوعة فى الخارج أقرب إلى عملية التهريب منه إلى الاستيراد.
نعم، شعرت الطبقة الوسطى طبعا (وما بقى من الطبقة العليا) بوطأة هذه الإجراءات، ولكن هذه الإجراءات نفسها وضعت أيضا حدا لتهريب الكثير من العادات وأنماط الاستهلاك التى لم يألفها المصريون. نعم، لقد تساهل نظام عبدالناصر مع الخروج على الاحترام الواجب للغة العربية، لصالح العامية، كما أنه تعامل بخشونة غير مبررة مع مؤسسة الأزهر باسم التحديث، ولكن كم يبدو هذا هينا الآن بالمقارنة بما حدث للتراث بعد انتهاء عهد عبدالناصر. كان أول وزير للثقافة فى عهده (فتحى رضوان) رجلا يعرف جيدا قدر التقاليد والمحافظة على التراث، ثم جاء أهم وزير للثقافة فى عهد عبدالناصر (ثروت عكاشة) ليجمع جمعا باهرا بين التحديث واحترام التقاليد المصرية. شجع فرق الموسيقى الكلاسيكية الغربية وفن الباليه الغربى وشجع فى نفس الوقت فرقة الرقص الشعبى المصرى وفرق الموسيقى العربية الكلاسيكية لإحياء تراثنا الموسيقى، كما شجع ترجمة الكتب الغربية وفى نفس الوقت عمل على إحياء وإعادة طبع الكتب الكلاسيكية العربية.
ثم بدأت فى الربع الأخير من القرن الماضى تلك القصة المحزنة فيما يتعلق بالتراث والتحديث واستمرت حتى آخر يوم من عهد حسنى مبارك، أى لفترة تزيد على ثلث قرن، شهد فيها المصريون عبثا لم يروا مثله من قبل بتراثهم وتقاليدهم دون أن يروا من «التحديث» ما كانوا فى حاجة حقيقية إليه. ففى الاقتصاد كان التحديث فى الاستهلاك أكثر منه فى الإنتاج، وفى التعليم كان التحديث بالتوسع فى بناء فصول جديدة فى المدارس وإضافة جامعات جديدة فى الأقاليم مع السماح بتدهور مستوى التعليم فى المدارس والجامعات، وإهمال التوسع فى البحث العلمى. وقل مثل هذا على وسائل الإعلام التى جددت مبانيها وزادت صفحات جرائدها وساعات إرسالها، ولكن مع السماح بتدهور ما يبث للناس من أخبار وبرامج.. إلخ.
●●●
مع قيام ثورة 25 يناير 2012، ومجىء رئيس جديد للجمهورية كان ينتمى للمعارضة طوال عهدى السادات ومبارك، ووعد بمجرد اعتلائه كرسى الرئاسة بأن يحدث تغييرا شاملا فى الأحوال المصرية، يبدو أن ملف «التراث والتحديث» لابد أن يُفتح من جديد، وأن نعيد التفكير فيه بمنتهى الجدية.
كيف يمكن للمصريين أن يبدأوا صفحة جديدة يسرعون فيها بخطوات التحديث الذى طال إهماله، مع أقل مساس ممكن بتراثهم وتقاليدهم؟ أو ما يمكن التعبير عنه بطريقة عكسية بطرح السؤال التالى: كيف يكون موقعنا من التراث والتقاليد موقفا إيجابيا، بمعنى الجمع بينه وبين التجديد والتحديث والإبداع، دون أن نجعل التراث أو التقاليد قيدا على حركتنا وتقدمنا؟ إن هذين السؤالين الكبيرين تتفرع عنهما مجموعة كبيرة من الأسئلة، كلها على قدر كبير من الأهمية: كيف نجعل احترامنا للترثا منسجما مثلا مع مبدأ المواطنة ولا يخل بحق الأقليات الدينية فى ممارسة حرياتهم كاملة؟
أو كيف نجمع بين احترام التراث والتقاليد وبين التقدم الاقتصادى فى عصر العولمة، حيث تزيد الحاجة إلى تقديم الائتمان وقبوله، وإلى الاستثمار الأجنبى فيما يسد نقص الادخار المحلى، وإلى تشجيع السياح على المجىء إلى مصر دون خوف؟ هذه هى بعض الأسئلة المهمة التى تفرضها العلاقة الصحية المأمولة بين التراث والتحديث، وفى هذا فليتنافس المتنافسون.