منذ أكثر من مائتى عام قال بنجامين فرانكلين، أحد الآباء المؤسسين للولايات المتحدة: «هؤلاء الذين يضحون بالحرية مقابل الأمن (الاستقرار) لا يستحقونهما». ومنذ وصول الرئيس دونالد ترامب للبيت الأبيض، قبل عام ونصف العام، عاد لواشنطن حديث متجدد حول «الأمن القومى»، وهو حديث ارتفعت وتيرته كثيرا عقب أحداث 11 سبتمبر 2001 الإرهابية والتى خلفت ثلاثة آلاف ضحية من المواطنين الأبرياء فى نيويورك وواشنطن وبنسلفانيا، عندما تبنت إدارة الرئيس السابق جورج بوش سياسات تخالف القيم والمبادئ التى ارتآها الآباء المؤسسون للدولة الأمريكية وذلك كمبرر لحماية «الأمن القومى». وتحت ذريعة الأمن القومى انتهكت خصوصيات الآلاف، ووجهت تهم بالاشتباه للمئات، وأُلقى القبض على آخرين، وبصفة عامة تم التعدى على القانون.
***
واليوم تشهد الولايات المتحدة نفس الظاهرة، لكنها أكثر خطورة، إذ لا يستثنى ترامب أى قرار يتخذه، أو أى سياسة يتبعها من تبريرها بحجة خدمة «الأمن القومى الأمريكى». ولم يتخط أى رئيس أمريكى سابق الرئيس ترامب فى استخدامه كلمة «الأمن القومى» لتبرير كل قراراته وسياساته المثيرة للجدل. وباسم الأمن القومى يتجه ترامب لقاعدته الانتخابية التى تمنحه ما يشبه الولاء التام. وبدءا من قراراته المتعلقة بحظر دخول مواطنى عدة دول مسلمة، إلى اتباع سياساته التجارية الانعزالية، وفرضه لرسوم ضريبية إضافية، وتبنيه سياسات تجاه المهاجرين الشرعيين وغير الشرعيين، مرورا بانسحابه من الاتفاق النووى الإيرانى، والاتفاقات التجارية مع دول المحيط الهادى، وانسحابه من اتفاقية باريس للمناخ، وصولا لقرار نقل سفارة بلاده للقدس، برر ترامب كل ذلك وغيره من القضايا، بخدمة الأمن القومى لبلاده أو الحفاظ عليه.
***
لا تعرف واشنطن مفهوما أكثر أهمية أو كلمة أكثر تداولا من «الأمن القومى»، وتدخل كلمة الأمن القومى فى تعريف الفريق المساعد للرئيس الأمريكى ممثلا فى «مجلس الأمن القومى»، كما تعرفها مؤسسات أمريكا السياسية؛ إذ تقع خارج حدود واشنطن العاصمة فى ولاية ميريلاند «وكالة الأمن القومى» ذات المهام الاستخباراتية الفريدة. دولة الأمن القومى تلك جاءت للوجود عام 1947 مع بدء الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتى، إذ شهد هذا العام صدور تشريع يتعلق بالأمن القومى، ومنه تم تأسيس مجلس الأمن القومى، وتأسيس وكالة الاستخبارات المركزية، إضافة لتمدد كبير فيما يمكن أن يُطلق عليه أجهزة الأمن القومى.
***
ولا يقتصر استغلال كلمة «الأمن القومى» على الرئيس ترامب، فكبار مسئولى إدارته لا يتوقفون عن اتباع نسق الرئيس، فقد ذكر ذلك وزير التجارة الأمريكى ويلبور روس فى تبريره لفرض تعريفات جمركية جديدة على منتجات صينية، وذلك خلال تقديم شهادته للجنة الشئون المالية بمجلس الشيوخ، وقال «هذه الإدارة تقف إلى جانب العائلات الأمريكية وقطاع العمال الأمريكى، وإلى جانب العمال، ولهذا تم اتخاذ هذه القرارات لتخفيض الواردات التى تهدد الأمن القومى». ولا يوافق الكثيرون على التبرير الرسمى لفرض هذه التعريفات، ويرونها فقط نوعا من «القومية الاقتصادية» التى لا علاقة لها بالأمن القومى الأمريكى طبقا لعضو مجلس النواب من ولاية بنسلفانيا بات تومى. وفرض ترامب مؤخرا تعريفات جمركية كبيرة على كندا، تلك الدولة الحليفة المسالمة التى تجاور أمريكا من الشمال، وذلك تحت ادعاء «حماية الأمن القومى الأمريكى»، ودفع ذلك السيناتور الديمقراطى كريس فان هولين، من ولاية ميريلاند للسخرية بالقول: «فرض ضرائب على منتجات كندا باسم حماية أمننا القومى تثير الشفقة والسخرية. الرئيس يستغل مفهوم الأمن القومى بطريقة سيئة». ويستخدم نفس الذريعة وزير الخارجية مايك بومبيو خلال زياراته لكوريا الشمالية وفى تبريره لعقد قمة سنغافورة بين ترامب وقائد كوريا الشمالية كيم جونج أون.
***
بدأ النقاش حول الأمن القومى حتى قبل تأسيس الدولة الأمريكية قبل 242 عاما، أى أن النقاش أقدم من أى مؤسسة أمريكية كالكونجرس أو المحكمة الدستورية العليا ـ وأقدم من الدستور الأمريكى ذاته، إذ تكشف وثائق الآباء المؤسسين للولايات المتحدة، ويومياتهم التى دون فيها تفاصيل نقاشات متعمقة حول الأمن القومى المتعلق بالدولة الوليدة حتى قبل أن تخرج للحياة. لكن الجديد الآن هو تمحور الكثير من السياسات والقرارات حول هذا المفهوم بطريقة جديدة ومبتكرة وإن كانت ضارة. فضفاضية التعريف، وترك ترجمته لتشمل الكثير من القضايا والمجالات يدفع للتشكيك فى أهداف هذه الإدارة أو تلك. ويرتبط بذلك أيضا تحديد هوية من يحق له تعريف وتحديد الأمن القومى، وهو السجال الذى لا ينتهى فى المجتمعات الديمقراطية، إذ يغيب التوافق، ويظهر كم اختلافات كبير، إلا أن شبه التخوين أو محاولة الإضرار بالوطن لا تُستخدم.
***
وعمليا يصبح الأمن القومى هو ما تطلق عليه الإدارة الحاكمة أمنا قوميا، وبسبب مناخ الخوف الذى أعقب هجمات 11 سبتمبر، وشعور المواطن الأمريكى بأن الخطر قد يصل له ولعائلته داخل الأراضى الأمريكية ذاتها، وافق الكثير من المواطنين على القبول بتعريف الحكومة الأمريكية لمفهوم الأمن القومى، بل واحتكارها له فى الكثير من المناسبات. ويتيح غياب وجود تعريف واحد متفق عليه من علماء الدراسات الاجتماعية والأمنية لمفهوم شديد الأهمية ويستخدم يوميا حول العالم بحجم وأهمية، أن يتم استغلاله من الحكومات. وعلى الرغم من أن هناك توافقا واسعا للغاية على أنه محصلة المصالح القومية الحيوية للدولة، ويشمل ذلك بالأساس عدة عناصر للأمن تتكامل كلها رغم تقاطعاتها الكبيرة، لتشكل الأمن القومى للدولة، مثل الأمن العسكرى والأمن السياسى والأمن الاقتصادى والأمن الاجتماعى والأمن البيئى، إلا النظم الحاكمة لا ترغب فى وضع تعريف محدد مخافة أن يقيد حركتها ويحد من تمتعها بحجية الأمن القومى، واحتكارها هذا يتيح لها يدا لا نهاية لها فى اتهام من تشاء بتهديد الأمن القومى.