استمر دور المفكرين المصريين فى صنع السياسة المصرية ضعيفا جدا خلال عهدى أنور السادات وحسنى مبارك، مثلما كان ضعيفا قبلهما. هذه الحقيقة، التى سوف أحاول تقديم الأدلة عليها حالا، لا تتعاض مع حقيقتين أخيرتين:
الأولى أن مصر حظيت خلال هذه الفترة بعدد من المفكرين والكتاب العظام «مثلما حظيت قبلها»، من كتاب فى السياسة والمجتمع، وأكاديميين مبدعين إلى روائيين ومسرحيين، وسينمائيين، تركوا بلا شك أثرا كبيرا فى عقول المصريين ولكن لم يُسمح لهم بالتأثير فى السياسة.
والحقيقة الثانية أن عهد السادات شهد تحولا مهما فى السياسة الاقتصادية والخارجية كانت له «ولا يزال» آثار عميقة فى التطور السياسى والاجتماعى والثقافى المصرى، ولكن هذا التحول (الذى أطلق عليه السادات أحيانا وصف ثورة التصحيح) لم يكن، كما هى العادة فى التاريخ المصرى، بتأثير المفكرين بها بتأثير عوامل أخرى سوف نتبناها خلال الحديث.
كان أنور السادات شخصية جذابة وطريفة فى الوقت نفسه، كان ضحوكا محبا للنكتة وللحياة الرغدة، يهتم بمظهره وملبسه (الذى كان كثيرا ما يغيره بتغير المناسبات والأماكن التى يوجد بها)، ولكنه قليل الاهتمام بالثقافة والأمور الفكرية، لسنا فى حاجة لتقديم الأدلة على ذلك، فتصريحاته وتصرفاته التى تدل على ذلك معروفة ومشهورة، ولكنه فى حديثه مرة مع أحمد بهاء الدين (كما جاء فى كتاب محاورات مع السادات) قال بصراحة إنه لا صبر له على قراءة ما يقدم له من تقارير عما تنشره الصحف ووكالات الأنباء، وتعليقات السياسيين العرب أو الأجانب، وأضاف أن الإمعان فى قراءة هذه الأشياء هو فى رأيه الذى عجل بنهاية عبدالناصر، كان السادات يحب الخطابة ويحاول التجويد فيها، ولكن هذا شىء والثقافة وشئون الفكر شىء آخر لا أظن أن السادات كان بطبعه يميل إليه.
عندما قدم بعض المفكرين والأدباء عريضة احتجاج للسادات فى سنة 1972، ينددون فيها بالتراخى فى الجهد المبذول لاستعادة الأراضى التى احتلتها إسرائيل فى 1967ويتضامنون فيها مع مظاهرات الشباب للسبب نفسه، استخدم السادات ألفاظا قاسية فى وصف بعض هؤلاء المفكرين، وعزل آخرين من مناصبهم، ومنع البعض الآخر من الكتابة فى الصحف.
وهى تصرفات تتفق مع شخصيته ومع موقفه من المثقفين بوجه عام، ولهذا فإنه عندما أعلن بعد عامين فقط بداية تحوله التام عن سياسة عبدالناصر، وتبنيه سياسة الانفتاح الاقتصادى، لم يكن هذا التحول بتأثير بعض المفكرين المصريين الذين لم يكونوا راضين عن سياسة عبدالناصر، بل كان نتيجة تحولات حدثت خارج مصر، وأنتجت أثرها فى مصر كما أنتجته فى دول أخرى كثيرة، متقدمة ومتخلفة وكانت بدورها تدشينا لعصر اكتساح الشركات الدولية العملاقة (المسماة بمتعددة الجنسيات) للاقتصادات الوطنية.
من الطريف أن نلاحظ أن هذا التحول الذى طرأ على سياسة السادات لم يكن حتى نتيجة لتحول فى تفكيره هو، لقد خدم أنور السادات السياسة الناصرية بولاء تام طالما كان عبدالناصر على قيد الحياة، لدرجة اختيار عبدالناصر له نائبا للرئيس قبيل وفاته. واستمر السادات يعبر عن ولائه للاشتراكية وسائر الإجراءات الناصرية (بل وكان أحيانا يبدى تشددا فيها يزيد عن تشدد عبدالناصر نفسه)، مما يرجح بشدة أن رجوعه عن هذه السياسة بعد رحيل عبدالناصر كان لأسباب أخرى غير التغير فى آرائه وقناعاته.
لقد لجأ السادات (كما يلجأ الحكام المصريون عادة) إلى الاستعانة ببعض الكتاب والمفكرين لصياغة هذه التحولات والدفاع عنها (بما فى ذلك كتابة سيرته الذاتية نفسها)، فبعد أن وصف اعتقاله للرجال القريبين من عبدالناصر «بثورة التصحيح» استعان ببعض الاقتصاديين المصريين لوضع ما عُرف «بورقة أكتوبر»، نسبة إلى أكتوبر 1973، الذى أنجز فيه الجيش عبور قناة السويس، لكى تحظى الورقة ببعض ما حظى به العبور من شعبية، وإن كانت هذه الورقة قد صدرت فى السنة التالية، قام السادات أيضا بتعيين رجلين معروفين باعتناقهما للفكر الاشتراكى كوزيرين فى حكومة جديدة (إسماعيل صبرى عبدالله وفؤاد مرسى)، ولكن ظل الوزيران (كما كان متوقعا) ضعيفى الأثر حتى استغنى عنهمال السادات استغناء تاما كوزيرين ومفكرين.
فى سبتمر 1981، قام السادات باعتقال عدد غير مسبوق من المفكرين والكتاب، والنشطين السياسيين من مختلف العقائد والمذاهب الفكرية، فلم يكن يجمع بينهم إلا معارضتهم لسياسة السادات، فلما أفرج عنهم الرئيس التالى، حسنى مبارك، بعد مقتل السادات، واستقبلهم فى قصره بمجرد خروجهم من السجن، تفاءلنا خيرا بإمكانية أن يلعب المفكرون المصريون دورا أكبر فى تشكيل السياسة المصرية، خاصة بعد أن عقد مبارك مؤتمرا اقتصاديا فى فبراير 1982، للبحث عن حلول مشاكل مصر الاقتصادية، وضم هذا المؤتمر صفوة المفكرين الاقتصاديين المصريين من مختلف الاتجاهات، ولكن سرعان ما وضع رئيس الوزراء (فؤاد محيى الدين) نهاية لهذا الحدث الاستثنائى، فأمر الاقتصاديين بالانفضاض مشكورين على أن يدعوهم للاجتماع فيما بعد، وهو ما لم يحدث قط.
لم يستمر التفاؤل بإمكانية أن يلعب المفكرون المصريون دورا فى تشكيل السياسة المصرية أكثر من شهور قليلة، عادت الأمور بعدها إلى مجراها المألوف: كل شىء يصدر من علٍ، مدفوعا بعوامل أو منابر على توجيهات مجهولة، تأتى من مصادر خفية، ويظل المفكرون المصريون، شأنهم شأن سائر المصريين، يتفرجون على ما يحدث، ويتلقون الأخبار المدهشة أحيانا، والمألوفة أحيانا أخرى، دون أن يكون لهم أى أثر فى صنعها.
••••
لم تكن علاقة حسنى مبارك بالمفكرين والمثقفين المصريين كعلاقة السادات بهم، ولم يكن السبب فقط أنه كان ذا قدرة محدودة على فهم ما يرمى إليه هؤلاء المثقفون بالضبط، وأقل مكرا من السادات، ولكنه كان أيضا يواجه ظروفا مختلفة، لقد شق له السادات الطريق الجديد المخالف لطريق عبدالناصر، فسار فيه، ولم يعد فى حاجة إلى استخدام ما وصفه هو بأسلوب الصدمات الكهربائية، ليس فقط لأنه أسلوب لا يتفق مع شخصيته ومزاجه ولكن أيضا لأنه لم يكن فى حاجة إليه، استمر بعض كتابنا العظام، من أمثال فتحى رضوان وحلمى مراد فى الكتابة، وكان هناك أمل فى التغيير، ولكنهم لم ينجحوا فى تغيير أى شىء أثناء حياتهم، ولا نجح غيرهم بعد وفاتهم. فلما اشتد الإحباط بالناس قاموا بثورة فى 25 يناير 2011، ولكن قادة هذه الثورة لم يكونوا مفكرين أو كتابا بل شبابا، ذكورا وإناثا، من مختلف الطبقات والأديان ومستويات التعليم، لم يكن يجمعهم من الأفكار إلا كراهية النظام، واختلفوا تقريبا فى كل ما عدا ذلك.
لقد تأثر هؤلاء الشباب بلا شك ببعض الكتاب والمفكرين المصريين، ولكن كان هذا الأثر محدودا للغاية بسبب السد المنيع الذى أقامته الخمسون عاما السابقة بين المفكرين المصريين وبين الجمهور.
لقد أجبر حكامنا مفكرينا، طوال هذه الخمسين عاما على أن يلزموا حدودهم، وأن يقتصروا، فى أحسن الأحوال على أن يخاطب بعضهم البعض، وأجهضت أى محاولة لإنشاء تنظيم يعبر عن أفكارهم. كانت إحدى نتائج هذا ما رأيناه من تطورات بعد ثورة 25 يناير، ولكن كانت هناك أيضا أسباب أخرى لتواضع دور المفكرين المصريين خلال السنوات التالية لتلك الثورة، تحتاج إلى حديث آخر.