أن تأتى متأخرا خير من ألا تأتى أبدا.. هذا أفضل توصيف لحال تعليمنا الآن، فبعد ما يزيد على عقدين من الزمان على إلغاء نظام التحسين بالثانوية تعود للصدارة الأخبار مرة أخرى مع تصريحات عن عودة مجموعات التقوية والقنوات التعليمية فماذا حدث ليعود كل ذلك بشكل مفاجئ الآن؟ وما أسباب ذلك وكيف نضمن حسن التطبيق والأهم الاستمرارية ولا نهدر عقودا فى شطب النظام القديم.. الجديد.
***
فى عام ١٩٩٤ تقدم د. حسين كامل بهاء الدين بتعديل هام على نظام الثانوية العامة لتكون على عامين بدلا من عام، ويسمح هذا النظام بتحسين الدرجات وتعدد مرات دخول الامتحان ولكن، وآه من كلمة لكن هذه، فقد تم التراجع عنه وإلغاء التحسين بعدها بسنوات قليلة جدا لأسباب اقتصادية؟! وليس أسباب علمية ودراسات حول لماذا تم الإلغاء؟ ولذلك لابد أن نعيد السؤال نفسه عند العودة للفكرة.
وفورا وكما أعلن ذلك وزير التربية والتعليم هذا الأسبوع.. وأن التطبيق سيتم مع امتحانات الثانوية فى العام الدراسى الجديد بعد أسابيع قليلة، فما هى الضمانات لاستمراره كنظام تعليمى لصالح الطلاب والتعليم فى المقام الأول، وأن لا يتم الإلغاء حتى فى عهد نفس الوزير كما تم وحدث لنفس هذا النظام (التحسين بالثانوية) قبل سنوات..
وبعيدا عن لهجة التحذير الوزارية للصحفيين فى كيف ينبغى للطلاب أن يفهموا وطريقة الكتابة ونظام الحفظ والتلقين!! فهناك عدد من الأسئلة تحتاج إجابات وشفافية حتى لا يكون هناك مجال إلى الإشاعات التى يحذرنا منها الوزير فى المؤتمر الصحفى رغم وجود الصحفيين! وحتى تكتمل لنا الصورة وننبذ الإشاعات! ولكشف الغموض والالتباس حول تطبيق نظام التحسين وليس عن جودة فكرة نظام التحسين نفسه.
***
فأولا، هل يحتاج العودة لنظام التحسين إجراء تشريعيا على قانون الثانوية العامة الحالى لتغييره والذى ينص على أن امتحاناتها تتم على عام واحد، فكيف سيكون شكل الامتحانات الجديدة فى ظل عودة التحسين، هل ستتم على أكثر من عام أم لا؟ خاصة أنه وكما تم فى الماضى القريب لنظام التحسين أو حتى عندما تم إلغاؤه تم ذلك من خلال إجراء تشريعيا داخل مجلس النواب.. فهذا سؤال جوهرى الآن حتى لا يتم الطعن على القرار بعد ذلك ولاسيما أننا لم نعرف أن جدول مجلس النواب يتضمن مثل هذا التعديل على القانون الحالى.. وإذا افترضنا أن التحسين لا يحتاج إجراء تشريعيا كما فى الماضى! وأن التعديلات ستصدر بقانون من وزير التعليم الحالى، فيبقى السؤال عن التفاصيل التى يكمن بها الشيطان، منها عدد مرات دخول امتحان التحسين والرسوم المستحقة عنها وعدد المواد المسموح بها للتحسين وكذلك مواعيد الامتحان والنتيجة وعلاقة ذلك بمكتب التنسيق ومواعيده الثابتة مرة واحدة فى العام! وهل سيقترن نظام العودة إلى التحسين بتطبيق نظام الساعات المعتمدة بالجامعات ليسمح بالالتحاق بها فى الفصل الدراسى الثانى فى يناير أو فى ترم صيفى مثل أغلب جامعات دول العالم الآن، وكيف سيكون مضمون وموقف الامتحان نفسه ونموذج الإجابة لأن من حق الطالب أن يجد تدريبا ونموذجا متوقعا للإجابة وألا يترك الأمر لاجتهاد من التكنولوجيا فقط ونظام بنك الأسئلة، فهل سيكون هناك فى المقابل بنك لإجابات يحتمل الفروق الفردية بين الطلاب؟ وكذلك موقف التظلمات من النتيجة، خاصة أن الوزير قرر أن الامتحان سيكون بنظام الصح والخطأ فقط أو اختيار الإجابة من متعدد... ولكن ما أثار الدهشة هو تصريح الوزير على إلغاء استخدام الكتابة والقلم تماما أى فقط استخدام لمسة تكنولوجية على الجهاز ويشترك بها الجميع! فما هو الموقف من أسئلة الإبداع والتذوق مثلا؟ وماذا عن سؤال التعبير والكتابة فى اللغة القومية (العربية)، هل سيتم إلغاء التعبير والكتابة؟ مع أن تعليم الدول الأجنبية وفى الشهادة الإنجليزية على سبيل المثال يشمل سؤالا إجباريا عن التعبير بالكتابة عن موضوع محدد وفى عدد محدود من الكلمات.. لأن المقصود هو تدريب الطلاب على حسن التعبير واستخدام اللغة والمعانى والكلمات والكتابة بها، فهل إلغاء سؤال الكتابة عندنا يمكن أن يؤدى إلى أعداد من الطلاب تجيد التكنولوجيا والتعامل معها بلمسة واحدة ولكنهم فى عداد الأميين الذين لا يعرفون حسن استخدام اللغة نفسها والكتابة والتعبير بها، وتصبح ثقافتهم شفهية وبالنظر وليس لديهم ملكة الإبداعــ كما ألغينا فى الإعدادية احتساب درجات الرسم والفنون والكمبيوتر تحت مقولة أن الدرجة والامتحان ليس تعليما وتأهيلا فقط لسوق العملــ ويصبح لدينا الخريج بعد ذلك يخطئ فى الحديث والنطق ولا تصلح من جودته وسائل التكنولوجيا الحديثة بمفردها.. أو يمكن تفادى ذلك بجانب أن له مخاطر على مختلف المهن والعاملين بها بما فيها التخصصات العملية مثل الطب وكتابة روشتة أو تقرير طبىــ لن نقول محاضرة ــ أو مقال صحفى أو أدبى... ولماذا نخنق الإبداع والخيال والفروق الفردية لدى الطلاب ونجعلهم عبدة الآلة فقط والتكنولوجيا البصرية فقط باللمس ومعها الكسل أيضا؟، وهذا ينقلنا لنقطة هامة صرح بها أيضا الوزير تمشيا مع هذه الرؤية وأن التطوير ونظام التعليم الجديد هو الاعتماد الأساسى به على التكنولوجيا والآلة فقط لأن الحديث لم يتطرق لتطوير مضمون المناهج الحالية بالثانوى والمستمر كما هو منذ عقود ماضية؟
***
وما تلازم مع تطبيق التكنولوجيا ما قيل بإلغاء طبع الكتاب الورقى تماما من المرحلة الثانوى العام لـ 1,8 مليون طالب (الذى وزع عليهم التابلت)، واستمر استخدام الكتاب لطلاب التعليم الفنى مع عددهم الأكبر ومع عدم توزيع التابلت عليهم!... ولا أعلم أى دولة فى العالم المتقدم ألغت الكتب المدرسية الورقية حتى فى ظل وجود التكنولوجيا! لأن هدف الكتاب ليس فقط منهجا تعليميا أو ورقة أو شاشة وإنما هدفه الفكر والكتابة والقراءة... وحتى الآن عالميا لم تلغ هذه الصناعة الهامة ــ وهى صناعة النشر الورقى ــ كما لم تنتهِ صناعة الصحف الورقية. والأهم أن هذه صناعة الآن بالمليارات فى مصر ويعمل بها الآلاف من العاملين، فما هو المستقبل لها بعد تصريح الوزارة إلغاء طبع كتب الثانوى العام وتقليص موازنتها لصالح الكتاب أون لاين (Eــbook) والمنصات الإلكترونية؟! وهذا ينقلنا للحديث عن المخصصات المالية وما بها من جزء متعلق بأعمال التصحيح والكنترول ومكافأة الامتحانات بجانب الدروس الخصوصية التى ازدهرت كتعويض مادى للمعلم بسبب التدنى فى مرتبات المدرسين فى المقام الأول، فكيف ستكون العلاقة فى إطار النظام المقترح، وهل سيتم إعادة جدولة أيا كان المسمى لها فى ظل أن المطروح هو الحديث فقط عن المنصات الإلكترونية كأحد البدائل للدروس الخصوصية المباشرة، ويتحفظ البعض على ذلك التوجه من منظور أن المستفيد الأكبر منها هو شركات الاتصالات وبالتأكيد الدولة من خلال الرسوم والضرائب التى تحصل عليها من هذه الشركات العلنية مباشرة وليس من خلال اقتصاد سرى وخفى لا يدفع ضرائب ــ وهو الدروس الخصوصية ــ وفى الحالتين ستمول من جيب ولى الأمر.. فكيف ستكون العلاقة فى ظل المنصات الإلكترونية والإنترنت وهى علاقة لابد أن تكون واضحة وشرعية أيضا ضمن التغيير المطروح الآن، لأن هذه الإجراءات ليس لإبطال مفعول وإلغاء الدروس، ولكنه تقنين لها وتغيير الشكل من التقارب المباشر فى التعليم إلى التباعد باستخدام التعليم عن بعد، ولكى تصبح تحت رقابة الدولة ومؤسساتها سواء المالية أو التعليمية كما قال الوزير بنفسه وهذا شىء جيد جدا ومطلوب أيضا ولا نختلف عليه! ولكن لابد من الشفافية وسرعة الإعلان عن تلك السياسات فى التطبيق لتتواكب مع طرح الفكرة أو تقديم مشروع متكامل حتى يتم وأد الإشاعات من المنبع، وأن يأخذ فى الاعتبار ضرورة وجود عوامل تحفيز مادية وتدريب للمعلمين على التدريس أون لاين ولكسب ثقتهم للتعاون والعمل بها وإنجاحها وأيضا لإقناع ولى الأمر والطلاب، وهم المستهدفون من العملية التعليمية ونجاحها أيضا.. لأن التصريحات وحدها أو الإجراءات العقابية لن تنجح النظام البديل حتى فى الدروس الخصوصية أون لاين بل يمكن أن تصب الأزمات، مثل اختفاء مجموعات التقوية بالمدارس، فى صالح «السنترز«! إذن لابد من رؤية جديدة ومحفزة للمدرسين وإعادة تدريبهم على الطرق الجديدة... والأهم ضمان الاستمرار بنظام التحسين، وفى عودته مرة أخرى واقتناعى به كنظام مطبق فى أغلب دول العالم يستلزم ويتواكب مع ضرورة فتح المجال والأماكن بالتعليم العالى لقبول أعداد أكبر من الطلاب بالجامعات الحكومية حتى فى ظل التوسع الحالى فى إنشاء الجامعات الأهلية والأجنبية بمصروفات ومنح وأراضى الجامعات الحكومية لإنشاء فروع أهلية بمصروفات لهذه الجامعة.. وهو الذى استلزم فتح الأبواب لأعداد أكبر من الطلاب للالتحاق بالثانوى العام، وإلا من أين ستجد هذه الجامعات الجديدة طلابا للالتحاق بها؟! لذلك فإن العودة لنظام التحسين الذى طبق فى التسعينات يصبح أحد الحلول الهامة والمفيدة لزيادة الأعداد المقبولة بعد إزالة رهبة وفرصة الامتحان الوحيدة للثانوية... وإن كان التوسع يستلزم أيضا، وأقترح إجراءات أخرى، فى نظام المنح المجانية وغيرها بالجامعات الأهلية نفسها ومصروفاتها لتجذب شرائح اجتماعية أخرى، فقضية متفوقى الثانوية العامة فى السنوات الأخيرة من المدارس الحكومية تثبت أن الصراع على الالتحاق بالجامعة المجانية هو الخيار الأول ــ إن لم يكن الوحيد ــ لعدد كبير من المتفوقين والأوائل من المدارس الحكومية وأن جامعاتنا الكبيرة والقديمة مازالت فى المقدمة لجذب الأغلبية من الطلاب لأسباب تعليمية واجتماعية واقتصادية... وأخيرا فإن القرارات الأخيرة للوزارة جيدة وجاءت استجابة لما كتبنا كثيرا من ضرورة التوسع فى قاعدة التعليم العام وتعدد فرص الامتحان والإتاحة وكذلك فى العودة إلى القنوات التليفزيونية التعليمية، وهو ما سبق وكتبته هنا بالشروق فى مارس الماضى بعنوان التعليم وكورونا... فالعملية التعليمية الصحيحة ليست فى القرب أو البعد فقط، وإن التكنولوجيا بمفردها ليست مصباح علاء الدين لحل الأزمة فى مضمون التعليم وأهدافه المستقبلية وعلاقته بالتنمية وإنه رأس مال قومى فى حد ذاته لا ينضب ويجب تنميته.. فما يهم ليس لون القط وإنما أن يصيد الفئران.
صحفية متخصصة فى التعليم