ألقى الرئيس الأمريكى جون بايدن مساء الثلاثاء الماضى خطابًا بشأن معركة طوفان الأقصى. تكوَّن الخطاب من أربعة أجزاء. أولها مقدمة عاطفية تصف ضحايا المعارك من الإسرائيليين، وتصف قوات المقاومة الفلسطينية بأنها إرهابية وشريرة. وثانيها تأكيد أن أمريكا تدعم إسرائيل دعمًا كليًا شاملا وتفصل أوجه هذا الدعم. وثالثها تهديد المقاومة الفلسطينية ومن يدعمونها. وأخيرًا دعوة ضمنية للإسرائيليين بألا يتخلوا عن إسرائيل ويعودوا إلى البلاد التى جاءوا منها.
ما قاله بايدن فى خطابه مهم، لكنى أظن أن ما لم يقله هو الأكثر أهمية، وأن هذا الخطاب سيظل حاضرًا فى الذاكرة الإنسانية لزمن طويل؛ بسبب ما لم يقله تحديدًا.
• • •
أول ما لم يذكره الرئيس بايدن فى خطابه هو جرائم الاحتلال فى فلسطين. فهو لم يشر نهائيًا إلى سياسة الأرض المحروقة التى تتبعها إسرائيل فى قصف غزة. ولم يندد باستهداف الطيران الإسرائيلى للمدارس، والمستشفيات، وعربات الإسعاف، والمساجد، ومنازل المدنيين. وفى حين استفاض بايدن فى ذكر عدد القتلى الإسرائيليين، ووصف مشاعر عائلاتهم، وتقديم التعازى الحارة لهم، لم يذكر حرفًا عن الضحايا المدنيين الفلسطينيين ممن قتلهم الاحتلال الإسرائيلى بالقصف دون سابق إنذار حتى لحظة إلقاء خطابه، ولا مشاعر أسرهم وعائلاتهم.
ما يقوله غياب الضحايا الفلسطينيين عن الخطاب كثير. نستبعد أولا أن بايدن لم يكن يعلم أن إسرائيل قتلت أكثر من 700 مدنى فلسطينى، وجَرَحت أكثر من أربعة آلاف، منهم 140 طفلا قتلهم الاحتلال طوال الأيام الأربعة السابقة على خطابه. فمن غير المعقول أن يجهل الرئيس الأمريكى هذه المعلومات أو ينساها إلا إذا كان هناك خلل خطير فيما يصله من معلومات أو فى ذاكرته. المنطقى، إذن، أن بايدن تعمد عدم الإشارة إلى الضحايا الفلسطينيين. وهو تعمُّد يُمكن تفسيره بأن بايدن تبنى الأفكار العنصرية الإسرائيلية اليمينية المتطرفة التى لا ترى الفلسطينيين «بشرًا»، لهم حقوق البشر، وإنسانيتهم. وهى أفكار أصبحت تشكل جزءًا من الخطاب الرسمى لحكومة نتنياهو اليمينية المتطرفة خلال السنوات الأخيرة. ولعل أصدق تعبير عنها هو تصريح وزير الدفاع الإسرائيلى، يوآف جالانت، عن الحصار المتوقع على غزة، والذى قال فيه: «لن يكون هناك كهرباء ولا طعام ولا وقود، كل شىء سيكون مغلقا. نحن نحارب حيوانات بشرية». إن تجاهل بايدن لذكر الضحايا الفلسطينيين هو تصريح واضح عن أنه لا يتعامل مع الفلسطينيين على أنهم بشر متساوون مع غيرهم من البشر، وهذا هو المبدأ البسيط الذى تقوم عليه جميع حقوق الإنسان.
إن النظرة العنصرية التى يدعمها خطاب بايدن تُوقع ضررًا كبيرًا بصورة أمريكا عامة وبصورة بايدن نفسه خصوصًا. فقد اعتادت الولايات المتحدة الترويج لسياساتها تحت ستار حقوق الإنسان، والديمقراطية، وغيرها من الشعارات. ويمزق خطاب بايدن هذا الستار عن طريق تبنيه لتوجهات عنصرية فى حق الفلسطينيين، بما يقوض أية مصداقية للخطاب السياسى بشأن القضية الفلسطينية. من ناحية أخرى فإن صورة بايدن العامة ستتضرر كثيرًا فى المستقبل بسبب هذا الخطاب، وأتوقع أن يكون هذا الخطاب مادة ثرية لدارسى الخطاب فى تحليلهم للخطاب العنصرى فى السنوات المقبلة.
• • •
الأمر الثانى الذى لم يذكره بايدن هو الخلفية التاريخية للأحداث. لم يُشر بايدن نهائيًا إلى أن المعارك التى خاضتها المقاومة الفلسطينية وقعت فى الأراضى المحتلة بعد 1967، وأن المستوطنات التى هاجمتها المقاومة هى مستوطنات غير شرعية، بنتها إسرائيل على الأراضى الفلسطينية المحتلة وفرضتها رغم أنف المجتمع الدولى، ورغم أنف أمريكا نفسها التى نددت ــ على استحياء ــ أحيانًا بتوسيع هذه المستوطنات. لم يشر بايدن إلى الجرائم التى ارتكبتها إسرائيل بحق الفلسطينيين على مدار سنوات قبل هذه الأحداث. لم يشر إلى الانتهاكات المستمرة للمسجد الأقصى وقتل المصلين فيه، أو الاعتقالات المستمرة للشباب الفلسطينى، الذين يبلغ عددهم أكثر من 5 آلاف معتقل. لم ينتقد بايدن ممارسات اليمين الإسرائيلى المتطرف الذى ينادى قادته بـ«الموت للعرب»، ويصفون شعبًا كاملا بأنه «حيوانات بشرية»، ويتركون القرى العربية العزلاء مسرحًا لجرائم المستوطنين الذين يقتلون الفلسطينيين دون عقاب. ولم يذكر حرفًا واحدًا عن الحصار اللإنسانى المفروض على غزة منذ عام 2007.
يبدو خطاب بايدن مزيجًا من خطاب رئيسين أمريكيين سابقين هما ريتشارد نيكسون وجورج دبليو بوش. فقد اعتاد نيكسون وصف الفلاحين الفيتناميين المقاومين للاحتلال الأمريكى لبلادهم بأنهم «إرهابيون»، «أشرار»، «أعداء الديمقراطية والعالم الحر». فى حين كان يصف الجنود الأمريكيين الذين قصفوا القرى الفيتنامية العزلاء بالنابالم، وأبادوا قرى بأكملها بأنهم الأبطال المحررون المدافعون عن الإنسانية والحرية والديمقراطية وقيم العالم الحر. وبالمثل فإن بايدن لا يصف إسرائيل بأنها دولة احتلال تمارس فصلا عنصريًا، بل بأنها واحة الديمقراطية. أما المقاومة الفلسطينية التى تستمد شرعيتها من القانون الدولى نفسه فيصفها بأنها «إرهاب شرير». لكن بايدن لا يستدعى لغة نيكسون وحده، بل يحاكى خطابًا آخر هو خطاب بوش بشأن الغزو الأمريكى للعراق. لقد اعتمد بوش على الأكاذيب فى تبرير الغزو، مدعيًا وجود أسلحة دمار شامل فى العراق حينها. وعلى نحو مشابه اعتمد بايدن فى تبريره للجرائم الإسرائيلية على الشعب الفلسطينى على أكاذيب صريحة مثل تصريحه بأن الفلسطينيين يعادون اليهود، وأن إسرائيل هى واحة الديمقراطية فى المنطقة. فالفلسطينيون لم يُعادوا اليهود أبدًا، بل دافعوا عن أراضيهم ضد المحتلين. ولآلاف السنين عاش المسلمون والمسيحيون واليهود فى فلسطين جنبًا إلى جنب دون أية نزاعات أو مشكلات. أما إسرائيل فكيف يُعقل وصفها بأنها بلد ديمقراطى فى حين أنها تمارس تمييزًا وعنصرية مؤسسين تجاه ما يقرب من ثلث سكانها من فلسطينيى الداخل، الذين تُطلِق عليهم متعمدة اسم «عرب إسرائيل».
يكشف خطاب بايدن عن افتقاد تام للمصداقية والنزاهة، ويقدم نموذجًا سيئًا للخطابات المضللة. لكن أخطر ما يفعله أنه يحرض على مزيد من سفك دماء الأبرياء، ويعزز مشاعر الكراهية، ولا أستبعد أن يصبح هذا الخطاب فى المستقبل القريب النموذج المشين للخطابات العنصرية التى تسحق الإنسانية وتدعم الإرهاب.