شعر كثيرون من محبى الدكتور علاء الأسوانى، والمعجبين بأدبه ومواقفه السياسية، بأن من المناسب جدا إقامة حفل لتكريمه وإعلان التضامن معه لسببين أساسيين: الأول ما لاحظوه من أنه فى الوقت الذى يجرى فيه تكريم علاء الأسوانى فى دولة بعد أخرى خارج مصر، تتخذ منه الدولة المصرية موقفا مدهشا من التجاهل المتعمد، والتعتيم المستمر على ما يحصل عليه من تكريم من خارج مصر، كما ترفض منحه أى جائزة من جوائز الدولة، بينما تمنح الجوائز أحيانا للأقل منه موهبة.
والسبب الثانى أن الصهيونية العالمية غاظها أن يحصل أديب مصرى على كل هذا النجاح فى أنحاء العالم، فتترجم أعماله إلى أكثر من ثلاثين لغة، وتتجاوز مبيعات بعض رواياته المليون نسخة، وهو فى نفس الوقت معارض للتطبيع مع إسرائيل، كاره للصهيونية، ومناصر للفلسطينيين، فراحت تشن عليه حملة شعواء فى الصحف ووسائل الإعلام الموالية لها، متهمة إياه بتلك التهمة السخيفة، وهى أنه «معادٍ للسامية».
وقد دعيت للاشتراك فى هذا الاحتفال الذى أقيم يوم الاثنين الماضى بنقابة الصحفيين فذهبت مسرورا لأكثر من سبب، فبالإضافة إلى إعجابى الشديد بروايتى علاء الأسوانى الشهيرتين «عمارة يعقوبيان، وشيكاغو»، وبقصصه القصيرة الجميلة، اكتشفت بعد ذلك أن علاء الأسوانى مصنوع من معدن خلقى نفيس، حتى إنى أسأل نفسى أحيانا: «هل هذا المعدن أسوانى؟».
اكتشفت هذا «المعدن الأسوانى النفيس»، من مواقفه السياسية المتتالية التى يعبر عنها بصراحة تامة وبقوة، كموقفه من الهجوم الأمريكى على العراق فى سنة 2003، ثم من قضية التوريث، ومن قضية الحريات فى مصر، ومواقفه من بعض التصرفات المدهشة لوزير الثقافة المصرى ورجاله، وكذلك مواقفه من التطبيع مع إسرائيل. وكان آخر هذه المواقف رفضه أن يقوم مركز إسرائيلى بترجمة وطباعة (عمارة يعقوبيان) لأنه يرفض أى تعامل مع الإسرائيليين.
لم يكن غريبا أن يخلق علاء الأسوانى لنفسه أعداء فى جبهات مختلفة.
هناك أولا العداء الطبيعى الناشئ من الغيرة من جانب بعض الكتاب الأقل موهبة، وهناك العداء من الدولة التى لا يكف الأسوانى عن نقدها، وهناك العداء من وزير الثقافة بالذات ورجاله الذين لا يكف علاء الأسوانى عن الكشف عن أخطائهم وها هو ذا الآن العداء السافر من جانب إسرائيل وأنصارها.
كان الكتاب الغيورون من علاء الأسوانى يعتمدون فى تحقيق الشهرة على ثلاث وسائل أساسية، جاء علاء الأسوانى فأثبت قلة جدواها.
الوسيلة الأولى لتحقيق الشهرة: أن يكتبوا كلاما غير مفهوم، اعتمادا على أنه فى مجتمع نصفه من الأميين وربعه من أنصاف المتعلمين، يمكن بسهولة أن يفقد القارئ ثقته بنفسه إذا رأى أمامه شخصا يكتب كلاما لا يفهمه بالمرة، فيظن أن العيب فيه هو، أى فى القارئ، وأن هذا الكاتب الذى يكتب كلاما بهذه الدرجة من الصعوبة والإبهام لابد أن يكون عبقريا.
والوسيلة الثانية للشهرة، أن ينشئ الكاتب غير الموهوب علاقات مع بعض الأشخاص المهمين فى وسائل الإعلام، خاصة التليفزيون، فيضمن أن يدعى للاشتراك فى كل ندوة تليفزيونية، وأن يتكرر ظهور صوره فى الجرائد والمجلات، خاصة صورته وهو يتخذ سمة المفكر المشغول بالتفكير العميق، فلا يمضى وقت طويل حتى يشار إليه بوصف الأديب الكبير، ثم مع تكرار هذا الوصف يصبح «أديبا كبيرا» بالفعل، خصوصا فى بلد يعتبر فيه الظهور على شاشة التليفزيون دليلا أكيدا على الأهمية والنبوغ.
والوسيلة الثالثة والأكثر فعالية لتحقيق الشهرة، وإن كان لا ينجح فيها إلا المثابرون، هى أن يحصل الكاتب غير الموهوب على مركز المسئول عن صفحة ثقافية خاصة به فى إحدى الصحف، يفعل فيها ما يشاء. ففى هذه الحالة سوف يخطب الجميع ودّه، ويتحول الأمر إلى تبادل المنافع بين مجموعة من الكتاب الخالية من الموهبة، فيشتهر الجميع، ويصبحون جميعا «أدباء كبارا».
نعم كل هذا كان ممكنا، ولكن ماذا يفعل هؤلاء الآن وقد أثبتت ظاهرة علاء الأسوانى أن من الممكن للكاتب أن يحقق نجاحا جماهيريا رغم أنه يقول كلاما مفهوما (فالناس فى نهاية الأمر يفضلون أن يسمعوا ويقرأوا كلاما يستطيعون فهمه ويتأثرون به)، ورغم أنه ليس ضيفا دائما على الندوات التليفزيونية (فهو ممنوع أصلا من دخول التليفزيون)، وليس له صفحة ثقافية خاصة به فى إحدى الصحف؟
لجأ هؤلاء الغيورون (وانضم إليهم بعض رجال وزير الثقافة) إلى استخدام حجتين سخيفتين:
الأولى: أن علاء الأسوانى كاتب تقليدى، لم يفعل أكثر مما فعله نجيب محفوظ فى الأربعينيات والخمسينيات، أى قبل أن يكتب قصصا رمزية أو فلسفية.
والثانية: أن النجاح الجماهيرى الذى يحققه الكاتب ليس دليلا على الجودة، بل ذهب بعضهم إلى حد الزعم بأن النجاح الجماهيرى دليل على عدم الجودة.
أما الحجة الأولى فردى عليها أن للأدب والفن عموما ألف شكل ولون، ولا تستطيع أن تفاضل بين لون من الأدب وآخر إلا بدرجة تأثيره فى النفس (ثم فلتبحث بعد هذا فى سبب نجاح كاتب دون آخر فى إحداث هذا التأثير).
فإذا كان الناس فى أوائل القرن الحادى والعشرين مستعدين للتفاعل والتعاطف مع عمل أدبى جميل كان له شبيه فى الأربعينيات والخمسينيات، فما الضرر فى ذلك؟
وأما الحجة الثانية فمعناها فى الواقع أنك كلما نجحت فى أن تظل فكرة لا يعبأ بك أحد، كان معنى هذا ارتفاع قدرك وعظمة موهبتك.
أما الدولة المصرية، فقد وجدت هى أيضا نفسها فى ورطة لا تحسد عليها. فهذا الرجل الذى يندد بفسادها ويرفض التوريث ولا يكف عن فضح أى اعتداء على الحريات، أصبح فجأة مشهورا ومحترما، فى داخل مصر وخارجها، ومن ثم فما يوجهه إليها من نقد لابد أن يصغى إليه الناس فى الداخل والخارج.
فما العمل؟
ليس من السهل الآن القبض على علاء الأسوانى أو تلفيق تهمة له بعد ما حققه من شهرة. أى أنه لم يعد يجدى معه «سيف المعز» فلابد إذن من أن نمنع عنه «ذهبه»، كحرمانه من أى جائزة من جوائز الدولة، لا جائزة مبارك، ولا جائزة تقديرية، ولا حتى جائزة تشجيعية. ربما أعطوه الجائزة فى حالة واحدة فقط، كما فعلوا مع يوسف إدريس من قبل (الذى كان أيضا صريحا فى التعبير عن رأيه ونقده لما تفعله الدولة).
إذا انتظرت الدولة حتى أصبح يوسف إدريس على فراش الموت فى لندن، بعد أن أصبح عدم حصوله على جائزة من الدولة مثار سخرية الجميع، فأعطوه جائزة الدولة التقديرية عندما اطمأنوا تماما إلى أنه لن يتكلم أو يكتب بعد الآن. ولا يستطيع أحد أن يجزم بما إذا كان يوسف إدريس قد علم بحصوله على الجائزة أو لم يعلم.
أمام الدولة أيضا وسيلة أخرى ضد علاء الأسوانى وهى التعتيم التام على أخباره. فإذا حصل الأسوانى على جائزة دولية، مهما كانت رفيعة، يتم تجاهل الخبر تماما من جانب وسائل الإعلام الحكومية، وكأن الذى حصل على الجائزة عدو لدود لمصر. ولكن حتى هذا التعتيم التام لم يعد ممكنا فى العصر الذى نعيش فيه، مع وجود شبكات الإنترنت والفيس بوك... إلخ.
ثم جاء الدور على إسرائيل للانتقام من علاء الأسوانى. كان نجاح علاء الجماهيرى فى الداخل والخارج، فى حد ذاته، مفاجأة غير سارة للإسرائيليين. فهو يُدعى للكلام فى المعارض والندوات الدولية، ويظهر على شاشات التليفزيون وفى الإذاعة فى كثير من الدول الكبرى، وتترجم رواياته إلى عدد كبير من لغات العالم، ولكنه أيضا معارض للتطبيع وكاره لإسرائيل ومناصر للفلسطينيين، فلابد أن يُحدث هذا ضررا محققا بالمشروع الإسرائيلى. فما العمل؟
قالوا لأنفسهم: «فلنترجم إحدى رواياته للعبرية. فإذا كان ممن يغريهم المال أجزلنا له العطاء فى المكافأة وإيرادات الكتاب، وإذا كان ممن لا يشبعون من الشهرة، رفعنا ذكره وأشدنا بموهبته فى كل وسيلة إعلامية تخضع لنفوذنا. ولكن علاء الأسوانى لا ينفع معه هذا ولا ذاك، بسبب المعدن الأخلاقى النفيس الذى أشرت إليه. وأعلن أنه يرفض الدخول فى أى علاقة مع الإسرائيليين، ثقافية أو غير ثقافية، بل ورفع على الناشر الإسرائيلى قضية أمام المحاكم لقيامه بترجمة ونشر روايته دون إذن منه.
لم يبق أمام الإسرائيليين إلا الوسيلة الأخرى التى استخدموها كثيرا من قبل مع كل من يرفض الانصياع للمشروع الصهيونى، وهى اتهامه بتلك التهمة المدهشة «العداء للسامية» وهى تهمة غريبة ومدهشة حقا، وأعتقد أنه فى وقت ما فى المستقبل (أرجو أن يكون قريبا) لن يضحك المؤرخون من تهمته أكثر مما سيضحكون من تهمة «العداء للسامية»، إذ إن معنى أن أتهمك بهذه التهمة ليس أكثر من أن «أقول لك» إنك مجرم لأنك لا تحبنى!. فهل وصل الأمر إلى أن تعتبر كراهة شخص فاسد، جريمة؟
لقد كرر علاء الأسوانى أكثر من مرة (دون أن يكون فى الحقيقة بحاجة إلى ذلك) أن رفضه للتطبيع ليس رفضا لليهودى وأن كراهيته ليس لليهودى بل للصهيونى، ولكن لا فائدة.
فكراهية إسرائيل جريمة منكرة إذا كنت رجلا مشهورا ومهما. يمكنك أن تكره إسرائيل ولا يعبأ بك أحد إذا لم يكن لك أثر يذكر، ولكن أن تكون بشهرة وأهمية علاء الأسوانى وتكره إسرائيل، فهذه هى الجريمة النكراء.
لهذا السبب اجتمعنا يوم الاثنين الماضى فى نقابة الصحفيين لضم صوتنا لعلاء الأسوانى، ولنقول له:
«نحن معك فى رفض التطبيع، وفى الانتصار للفلسطينيين، وفى كراهية إسرائيل، ونحيى فيك معدنك الأخلاقى النفيس، على أمل أن يجىء اليوم الذى يصبح فيه الانتصار للحق فضيلة، ولا تكون فيه كراهية الظلم جريمة».