الاستغراق فى تفاصيل ما يجرى فى حرب الإبادة الجماعية التى ينفذها جيش الاحتلال الإسرائيلى ضد الشعب الفلسطينى لا يغنى عن محاولة رؤية المشهد العام الذى تجرى فيه هذه المجزرة البربرية. إن سكوت العالم شرقا وغربا على تلك الجرائم يؤكد أن الأطراف المستفيدة من تلك الحرب أكثر من المتضررة منها، وأن العديد من الأطراف الدولية والإقليمية تراهن على نتائج معينة من الأزمة الحالية. لقد عصفت «مؤقتا» حرب غزة 2023 بمشروع ممر الهند ــ أوروبا، الذى طُرح فى مؤتمر قمة العشرين الذى عقد فى سبتمبر الماضى، وجرجرت الولايات المتحدة للتدخل بقوات على الأرض فى الشرق الأوسط وداخل غزة، بصورة تعيق تركيز جهودها فى مناطق صراعها مع روسيا فى أوكرانيا والصين فى تايوان. هذا والمشهد مرشح لمزيد من التعقيد مع زيادة الحشد العسكرى الأمريكى داخل المنطقة، واستهدافه مواقع الحرس الثورى الإيرانى فى سوريا يوم التاسع من نوفمبر الجارى، مما يوحى بأن الولايات المتحدة باتت متورطة بأكثر من اللازم فى الشرق الأوسط.
• • •
نلاحظ أن كافة المراكز البحثية الأمريكية تضع الصين كأكبر خطر أو تحدٍ يواجه الولايات المتحدة، بينما سياسات واشنطن تبتعد الآن عن التصدى للخطر الصينى، وتنشغل بمواجهة روسيا من جانب ونجدة إسرائيل من جانب آخر. هذا ومن غير المرجح أن تنتهى حرب أوكرانيا فى أى وقت قريب، ولا أن تسحب الولايات المتحدة مساعداتها اللانهائية لأوكرانيا بعدما استثمرت المليارات وشحنت الناتو وحولت البيئة المستقرة فى شرق أوروبا إلى منطقة توتر لم تشهدها منذ الحرب العالمية الثانية. وكل ذلك يستنزف قدرات الولايات المتحدة والناتو مقابل صمود وتقدم روسى على الجانب الآخر. وبحسبة بسيطة فإن عناصر القوة الشاملة الروسية مازال لها اليد العليا فى مقابل الطرف الأوكرانى بالرغم من الإمدادات الغربية الهائلة. علما بأن جذور مشكلة أوكرانيا تعود لمحاولات الولايات المتحدة ضمها عام 2008 لحلف الناتو، وتسبب ذلك فى لفت انتباه صانع القرار الروسى بأن ما يحاك لروسيا من توسع الناتو شرقا يتجاوز الخطوط الحمراء. وأدى ذلك فى نهاية المطاف إلى تحفيز روسيا لاستعادة بعض من ماضيها القوى، وبادرت باقتحام وضم القرم عام 2014، ثم القيام بعملية عسكرية شاملة فى أوكرانيا منذ فبراير 2022. معنى ذلك أن الولايات المتحدة لا تستطيع التحول عن ساحة أوكرانيا إلى الساحة الأهم وهى تايوان التى تعتبر ميدان المواجهة الرئيسى بين الولايات المتحدة والصين.
وأصرت الولايات المتحدة على اتباع نفس النهج فى الشرق الأوسط، فأخذت على عاتقها الدفع لتمكين التطبيع والاتفاق الإبليسى «الإبراهيمى سابقا»، دون الاكتراث بأى شىء له علاقة بوضع الشعب الفلسطينى، ورغبتهم الحثيثة فى إقامة دولة فلسطين وعاصمتها القدس الشرقية. وتمادت فى موقفها واعتبرت فى 2019 أن الجولان إسرائيلية وليست أراضى سورية محتلة. ودفعت بفكرة صفقة القرن التى لم تسفر عن شىء لصالح فلسطين. كما لم تستطع الولايات المتحدة فرملة الحكومة الإسرائيلية الحالية التى تشكلت بعد خمسة انتخابات خلال سنتين، أثبت خلالها الناخب الإسرائيلى ميله إلى الأحزاب اليمينية المتطرفة. فمنذ أن جاءت حكومة نتنياهو الحالية وهى تقتل، وتهدم، وتشرد بلا هوادة، تحت سمع وبصر الولايات المتحدة، إلى أن جاء «طوفان الأقصى» فى السابع من أكتوبر ليفجر المسألة برمتها. وتلقائيا، وجدت الإدارة الأمريكية بأن عليها فعل كل شىء بعدما تلاشى الردع الإسرائيلى واهتزت أوصال الدولة. وخشيت الولايات المتحدة من اتساع دائرة الحرب لتنتقل من غزة إلى الضفة، ثم إلى عرب 48، ثم فتح جبهة قتالية فى لبنان. ولذلك جاءت الولايات المتحدة بحاملات الطائرات لتعيد مستوى الردع إلى الحيز الذى يمكن من خلاله السيطرة على مجريات الأمور غير عابئة بصورتها فى العالم العربى. وبالرغم من ذلك لا تستطيع الولايات المتحدة ضمان ألا تتحول الحرب لإقليمية. وتكمن المفارقة فى أن الجانب الوحيد الذى يمكن أن يضمن عدم تصعيد إيران هو الجانب الصينى الذى سبق واستطاع عقد مصالحة بين إيران والسعودية مطلع هذا العام. ومن ثم، بدلا من أن تركز أمريكا قواتها حول تايوان لتُضيق على الصين، فإن الولايات المتحدة تتحدث مع الصين لكبح إيران وحلفائها بالشرق الأوسط.
• • •
فى هذا السياق ينحصر الجهد العربى والإسلامى عند مستوى الضغط أو التوسط من أجل إدخال المساعدات للشعب الفلسطينى، فى مقابل الطرف الأمريكى والأوروبى الذى يشحن الأسلحة جهارا نهارا إلى إسرائيل. وبالرغم من هذا التفاوت الصارخ فى الإمكانيات بين الطرف الإسرائيلى المدجج بالمقاتلات، والدبابات، والبوارج، والطرف الفلسطينى الذى لا يملك إلا المقاومين المعتمدين على الأسلحة الخفيفة والصواريخ التى تصيب العمق الإسرائيلى، فإن جيش الاحتلال الإسرائيلى لا يستطيع حصد أى مكسب عسكرى فى ثانى أطول حرب يخوضها فى تاريخه ضد طرف عربى بعد حرب الاستنزاف. فلا القصف دمر المقاومة، ولا التوغل البرى حرر الأسرى، ولم تنخفض عزيمة أهل غزة عن المقاومة بالرغم من الحصار المميت. وإنما تزيد يوميا حالة الاحتقان داخل إسرائيل بسبب هذا الإخفاق فى إحراز تقدم، والجميع يحذر فى تل أبيب من صبيحة اليوم الذى تقف فيه المعارك، ومن كشف الحساب عن الإخفاق الأمنى والعسكرى، والهزيمة السياسية والاستراتيجية، والتكلفة الاقتصادية، والزلزال الاجتماعى الذى أصاب المجتمع الإسرائيلى والذى يبدو أنه سيحتاج لسنوات لتخفيف آثاره. ويبدو أن نتنياهو وحكومة الإنقاذ التى شكلها لا تجد مخرجا مما هى فيه إلا تهجير أهل غزة. ولكن المفارقة أن الولايات المتحدة هى نفسها التى تقف ضد هذا السيناريو، بسبب معرفتها برد الفعل المصرى الأردنى، حيث أعرب وزير خارجية الأردن أن هذا الملف بمثابة إعلان الحرب. وكلما أصرت حكومة نتنياهو على التحايل للمضى قدما فى سيناريو التهجير بحجة علاج المرضى فى مستشفيات عائمة، كلما ترسخت القناعة فى واشنطن بأن ما بنته فى الشرق الأوسط منذ اتفاقية كامب ديفيد فى خطر.
ومن ثم فإن المشهد الختامى لحرب 7 أكتوبر مازال بعيدا، وكلما طال أمد الحرب كلما تغيرت الحسابات، ليس فقط على مستوى توسيع دائرة الحرب وإنما أيضا على مستوى التغيرات الشعبية التى تجرى نتيجة لهذه الحرب، والتى من شواهدها استمرار المظاهرات المؤيدة لفلسطين فى العديد من العواصم الغربية، بالتوازى مع عدم قدرة بعض الحكومات الأوروبية المضى قدما فى تأييد ما ترتكبه إسرائيل من جرائم، وحتى فى الولايات المتحدة ذاتها، فإن المظاهرات والخطابات الغاضبة من العاملين داخل الإدارة الأمريكية فى تزايد، ولكن الإدارة الأمريكية لا تستطيع تحويل مسارها أو الخروج من ورطة غزة، عن طريق حلول مؤقتة مثل التى عرضها ويليم بيرنز، رئيس السى ــ آى ــ إيه، فى زيارته لمصر يوم 8 نوفمبر الجارى، لتتولى القاهرة الأمن فى غزة كفترة انتقالية لحين نقل الملف إلى السلطة الفلسطينية، ولقد حسمت الأخيرة أمرها بالقول، لن نعود إلى غزة على ظهر دبابة الاحتلال.