جاء مجلس الشعب خاليا من المعارضة وبفعل فاعل، وزورت الانتخابات على نطاق غير مسبوق واستحدثت أساليب أكثر فسادا وعنفا حتى من قدرة مهندسى العملية الانتخابية ذاتهم على فهمها ناهيك عن السيطرة عليها. اختفى الحرج كرادع ولو بسيط فى كبح الشطط وتخطى النظام الحاجز النفسى فيما يتعلق بأهمية الحفاظ على الشكل.
كل ذلك بالطبع مؤسف للغاية ومخيف أيضا ولكنها فى النهاية أمور لا توجع القلب. فحتى مع أقصى درجات التشاؤم يظل الاحتمال النظرى موجودا بزوال الغمة والخروج من النفق المظلم، ومهما كان من أمر تدهور الحالة السياسية ورسوخ قواعد فاسدة ومريضة لممارستها فإنها فى النهاية أشياء قابلة للإصلاح مع وجود حكم وطنى ديمقراطى شريف. ولكن وإن تحققت الأحلام بوجود مثل هذا النظام ولو بعد عمر طويل فإنه لن يستطيع أن يفعل شيئا إزاء الخسائر غير القابلة للتعويض التى تلحق بالوطن فى المواسم الانتخابية لهذا الحكم والتى بلغت مداها فى هذا الموسم المشئوم.
أتحدث عن الرشوة العينية التى استقرت كتقليد انتخابى تساند به السلطات المحلية مرشحى الحزب الوطنى وهى غض الطرف عن مخالفات البناء على الأراضى الزراعية فى موسم الانتخابات فى مقابل مساندة الحزب وحشد الأصوات له.
اشترك هذا الموسم مع سابقيه فى هذه الظاهرة، لكننا هذه المرة شهدنا نقلة نوعية حيث لم يقتصر الأمر على اجتهادات السلطات المحلية وإنما كان الضوء الأخضر متضمنا فى البرنامج الانتخابى للحزب الوطنى الذى وعد سكان القرية بـ«مرونة فى تنفيذ اشتراطات البناء.. عشان تقدر تبنى ليك ولأولادك» ويتسق هذا مع ما أورده الكاتب المحترم محمد المخزنجى فى جريدة «الشروق» بتاريخ 30 ديسمبر 2010 استنادا إلى كتاب «التحضر العشوائى» للدكتورة جليلة القاضى من تصريحات فى وقت سابق لوزير الإسكان المهندس أحمد المغربى بأن أحد أسباب التدهور العمرانى فى مصر هو تجريم البناء على الأرض الزراعية، ويقول المخزنجى «إن كل أعمار لا يحافظ على ما تبقى من الرقعة الخضراء ولا يربط بين البناء ومقومات التنمية المستدامة التى قلبها وتاج رأسها الزراعة، أى لا يوازى بين استيعاب سكان ومرتادى هذا الأعمار وحاجاتهم الغذائية بالدرجة الأولى هو معمار عشوائى».
والحق أن هناك بالفعل أزمة تتعلق بقضية الإسكان الريفى والضرورة تقتضى إيجاد صيغ عملية توازن ما بين حق سكان القرى فى السكن وبين الحفاظ على الأرض الزراعية. وهناك بالفعل اجتهادات فى هذا الصدد واقتراحات جديرة بالمناقشة تحاول التعامل مع هذه القضية بما لا يتعارض مع المصلحة القومية. إلا أن ما يحدث على أرض الواقع لا يمت للتخطيط ولا حتى للعقل بأى صلة. فالغالبية العظمى من حالات التعدى على الأرض الزراعية لا تلبى الحاجة الماسة للسكن الريفى بقدر ما هى حالات تبوير وتسقيع منظم من قبل حفنة قليلة من ذوى النفوذ بهدف تعظيم ثرواتهم وسطوتهم.
والمفروض أن الحفاظ على الأرض الزراعية هو بالأساس مسئولية وزير الزراعة الذى صرح مؤخرا بأن مصر فقدت ما يزيد على 700 ألف فدان من الأرض الزراعية بسبب التعديات خلال العشرين سنة الماضية بمعدل 30 ألف فدان سنويا. وهى النتيجة التى توصلت إليها تقنيات الاستشعار عن بعد كما جاء بالخبر المنشور بجريدة المصرى اليوم بتاريخ 19 ديسمبر 2010. ولو طلب الوزير تأريخا تفصيليا لهذه التعديات ستصله خريطة زمنية تتركز فيها حالات التعدى فى الأشهر القليلة التى تسبق كل انتخابات برلمانية وسنصبح أمام وثيقة مخجلة بحق.
أما لو كان الوزير قد استخدم وسائل الاستشعار عن قرب وتجول فى أى من مناطق الريف المصرى قبيل الانتخابات فكان سيرى بعينه المبنى تلو الآخر وهو يعلو بين يوم وليلة وسط الزراعات وكان سيرى على الحوائط المخالفة ملصقات الدعاية لمرشحى الحزب الوطنى تبارك التعدى وتحميه وتغرى الناخبين بالمزيد من تحدى القانون.
للأسف لم يكن تسويد البطاقات وتزوير الإرادات ولا حتى العنف والبلطجة هم الأسوأ فى انتخابات 2010، إنما جاءت الخسارة الأفدح من الذين صوتوا بإرادتهم للحزب الوطنى مقابل قطع ثمينة من لحم الوطن الحى.