لم يكن يدور فى ذهن طه حسين، فى سنة 1938 عندما كان يكتب كتابه «مستقبل الثقافة فى مصر» أن أحد الأخطاء الكبرى التى تهدد هذا المستقبل هو خطر «التعصب الدينى». وعندما كتب عبدالعظيم أنيس ومحمود العالم كتابهما فى «الثقافة المصرية» فى سنة 1954، لم يكن هذا أيضا أحد الأخطار التى يحذر منها الكتاب. لم يكن نمو ظاهرة الإسلام السياسى، غائبا بالطبع عن هؤلاء الكتاب الكبار، ففى حالة طه حسين، كانت حركة الإخوان المسلمين قد تكونت قبل عشر سنوات، واستقطبت أعدادا متزايدة من المتعلمين وغير المتعلمين خلال عقد الثلاثينيات (الذى كان عقدا خصبا لنمو الحركات السياسية) وفى الوقت الذى كان أنيس والعالم يكتبان فيه كتابهما كان الإخوان المسلمون قد دخلوا فى صدام صريح مع جمال عبدالناصر. هذا صحيح، ولكن بالرغم من ذلك كان التيار السائد فى الثقافة المصرية لازال تيارا مدنيا علمانيا ويجمع بين خصلتين جميلتين (ياليتهما ظلتا مجتمعتين): احترام التراث الدينى والأدبى واللغوى والخلقى، وفى الوقت نفسه احترام انجازات الحضارة الحديثة فى العالم والتكنولوجيا والتنظيم السياسى والاجتماعى. دعنى أذكر مثالا واحدا لسيادة هذا التيار فى الثقافة المصرية فى الأربعينيات، ويكفى وحده للدلالة على ما أعنيه، وهو اكتشاف سيد قطب لعبقرية نجيب محفوظ وإشادته بها، وذلك قبل أن يحدث تحوله المعروف.
هذا التحول فى مسار الثقافة المصرية، الذى اتخذ شكل انقسام حاد بين التيار المدنى العلمانى، والتيار الدينى المتعصب، لم يكن إذن قد بلغ درجة خطيرة فى منتصف الخمسينيات. فمتى اتضح هذا الانقسام؟ وما العوامل التى أدت إلى اشتداد حدته؟ وهل كان حقا تطورا بريئا ناتجا عن التطور الطبيعى لظروف المجتمع المصرى، أم كان وراءه المستفيدون منه والداعون إليه؟ كلنا يوافق بشدة على وصف الشعب المصرى بأنه «شعب متدين»، ولكن الظاهرة التى أتكلم عنها الآن ليست ظاهرة تحول شعب غير متدين أو ضعيف الإيمان إلى شعب متدين أو قوى الإيمان. هل كان ظهور دعوة «التكفير والهجرة» فى السبعينيات دعوة حقا إلى العودة من الكفر إلى الدين؟ وهل كانت الاعتداءات المتعاقبة على السياح طوال الأربعين عاما التالية دعوة موجهة إلى شعب غير متدين للعودة إلى الدين؟ وهل كان قتل رئيس الجمهورية فى مطلع الثمانينيات دعوة من هذا القبيل أيضا؟ وكذلك قتل فرج فودة أو الاعتداء باسم الدين على نجيب محفوظ..إلخ؟ فى الوقت نفسه اتجه الإعلام إلى فتح أبوابه، أكثر فأكثر، لدعاة دينيين لم يتورعوا فى كثير من الأحيان عن اقحام تفسيرات غير عقلانية للدين بل وعن إثارة مشاعر عدائية ضد أصحاب الديانات الأخرى، بينما أغلقت أبواب التليفزيون (أكثر وسائل الإعلام شعبية) أمام أصحاب التفسيرات العقلانية للدين. فهل كان هذا أيضا صحوة دينية وتحولا من الكفر إلى الإيمان؟
•••
لقد قدمت تفسيرات عديدة لتفسير تلك القوة الخارقة التى اكتسبها فجأة التيار المسمى «بالإسلام السياسى» أحيانا، و«بالحركات المتطرفة» أحيانا، أو «بالإرهابية» أحيانا أخرى. قيل ان الهجرة إلى الخليج جلبت «ثقافة جديدة» للبلاد المهاجر منها، فأحلت التفسيرات الوهابية للدين محل التفسيرات الأقل تشددا والأكثر تسامحا. ولكن هذا وان كان يصلح تفسيرا لبعض الممارسات الشكلية (كتغيير شكل الرداء أو استخدام تعبيرات دينية فى بداية الخطب والمراسلات...الخ)، لا يصلح فى رأيى لتفسير تغير كبير فى طريقة التفكير، لابد له من عوامل ثبتت فى نفس المجتمع الذى تبنى مثل هذه التغيرات.
ذكر أيضا تأثر الحراك الاجتماعى السريع الذى أحدثته التطورات الاقتصادية والاجتماعية التالية لثورة 1952، ثم الهجرة والانفتاح، وما أحدثاه من تغيرات فى المراكز النسبية للشرائح الاجتماعية المختلفة، وما خلقاه من طموحات مفرطة لدى البعض للصعود الاجتماعى، من ناحيته، ومن شعور بالإحباط والاخفاق لدى من عجزوا عن تحقيق هذا الصعود، من ناحية أخرى. ذكر أيضا أثر التغريب السريع الذى أتى مع الانفتاح وما أحدثه من ردود فعل تقاومه بالتطرف فى الناحية الأخرى. وقيل أيضا أن تدهور مستوى التعليم ومستوى الإعلام له أثر فى تشجيع نمو حركات تفسير الدين تفسيرات بعيدة عن العقلانية. بل قدم أيضا تفسيرا «أيديولوجى» بحتا، إذ قيل انه ثبت بعد هزيمة 1967 أن مصر جربت كافة الأيديولوجيات وفشلت: الليبرالية والاشتراكية والقومية العربية فلم يبق إلا الأيديولوجية القائمة على الدين، والتى لم تعط فرصتها للتطبيق بعد.
•••
مهما كان نصيب أى من هذه التفسيرات من الصحة، فإنى لا استطيع أن أعفى الدولة الرخوة فى عهدى السادات ومبارك من المسئولية عن نمو هذه الحركات المتطرفة. إن «لرخاوة» الدولة مظاهر عديدة فى ميدان الاقتصاد، وفى مواجهة الأعداء الخارجيين، وفى مواجهة الفساد...الخ، ولكن من مظاهرها أيضا ما فعلته الدولة (وما لم تفعله) طوال عهدى السادات ومبارك إزاء هذه الحركات المتطرفة.
لقد قيل (بحق فى رأيى)، أن السادات شجع عن عمد نمو هذه الحركات، بل ومدها بالسلاح أحيانا، من أجل ضرب المعارضة اليسارية والناصرية لحكمه وقيل ان نظام مبارك رأى فى نمو هذه الحركات وخطر استيلائها على الحكم، عذرا يمكن استخدامه للدفاع عن بقائه فى الحكم، ويخيف به كارهى هذه الحركات فى الداخل والخارج. واعتقد ان نظام مبارك استخدم بالفعل هذا الخطر كسلاح ضد خصومه، مما جعله من بين المسئولين عن تفاقم ظاهرة التطرف الدينى. ولكنى أريد أن أضيف إلى هذا وذاك ملاحظتين مهمتين: الأولى: ان القوى الخارجية (العظمى والأقل عظمة) التى أيدت نظامى السادات ومبارك، ودعمتهما بالأموال والعتاد، تشترك أيضا مع هذين النظامين فى تحمل المسئولية عن نمو هذه الحركات، ومن ثم افساد الحياة السياسية والثقافية فى مصر. انى لا يمكن مثلا أن أتعاطف مع ما تزرفه هذه القوى الآن من دموع على ضحايا الإرهاب هنا وهناك، أو مع ما تعبر به من أسف عن ظهور جماعة مثل (داعش)، بعد أن فعلت هذه القوى ما فعلته لدعم نظم سياسية فى بلادنا كانت تفعل كل شىء من شأنه ان يساعد على نمو هذه الحركات.
والملاحظة الثانية: أنى أتذكر بأسف عميق مختلف الأمثلة التى كان يمكن أن يضع فيها نظاما السادات ومبارك حدا لنمو هذه الحركات ففعلا العكس بالضبط، من ذلك ما أظهرا من تهاون مخز فى منع الاعتداء على أرواح وممتلكات الأقباط أو فى منع التشهير ببعض الكتاب والمفكرين الذين اتخذوا موقفا جريئا وصريحا ضد هذه الحركات. إنى أتذكر بأسف عميق مثلا ما تعرض له مفكر مثل نصر حامد أبوزيد وزوجته من اضطهاد وتشريد لتعبيره عن موقف معارض لهذه الحركات، فلم تحرك الدولة المصرية فى عهد مبارك إصبعا لمساندته وإنقاذه. كم كان من السهل على سكرتير صغير فى رئاسة الجمهورية أن يتصل بمسئول فى الجامعة لانهاء العبث الذى تعرض له الرجل وانتهى بصدور حكم بتطليقه من زوجته، ثم بتشريدهما خارج الوطن.
ها هى تهمة أخرى يمكن أن توجه لنظام حسنى مبارك إذا شئنا أن يخضع هذا النظام للتقييم الصحيح، وهى تهمة إفساد الحياة الثقافية فى مصر، مما يصعب جدا فى رأيى أن يصدر فيها حكم بالبراءة.