اشتريت قبل أيام بضع ثمرات من فاكهة الكاكا المدهشة. التهمت واحدة وقلت لنفسى هذه فاكهة مظلومة للغاية، نعطيها فى مصر اسما مضحكا لا نعرف معناه: «كا كا».
لا تحظى هذه الكاكا بتقدير كبقية الفواكه الأخرى. ورغم أنها فى مذاق فريد عجيب ولا يسبب مشاكل صحية إلا أنها لا تحظى بشهرة المانجو التى يحذرونا من أملاحها الضارة، ورغم أن نواتها الداخلية صغيرة رقيقة لينة هينة إلا أنها لا تتحصل على نصف الاكتساح الشعبى الذى تتمتع به الجوافة.
أين السر إذن؟ هل فى هيئتها التى تجعل البعض يعتقد أنها أقرب للطماطم منها للفاكهة؟ أم فى القوام المائع الذى لا يحبه المتطرفون فى أكل الفواكه الذين يريدون فاكهة ذات شخصية واضحة وقوام حدى يقرقع صوت التهامه فيشعرون أنهم يخوضون معارك مظفرة ويقهرون أعداءهم؟ أم أن المشكلة فى العمر القصير لتاريخ هذه الفاكهة فى مصر؟
تعود معرفتى الحقيقية بهذه الفاكهة لظروف سياسية واقتصادية متوترة فى روسيا عام 1998. هذه هى السنوات الأكثر مأسوية فى المجتمع الروسى منذ تفكك الاتحاد السوفيتى عام 1991.
كانت روسيا وقتها يحكمها نظام رأسمالى غربى برئاسة بوريس يلتسين ومجموعة من الخبراء الروس الذين تعلموا فى أوروبا والولايات المتحدة وعادوا من هناك بروشتة علاج اسمها «العلاج بالصدمة».
تقوم فكرة هذا النوع من البرنامج على أنه طالما اقتصاد البلاد فى غرفة الإنعاش فلن ينفع مع المريض الذى توقف قلبه أدوية ولا محاليل ولا بديل عن تعريضه لصدمة كهربائية صاعقة.
بديهى أن الصعقة الكهربائية ستقتل فى الحال قطاعات واسعة من السكان الذين سيخرجون من دائرة تحمل الدولة لهم وتركهم على قارعة طريق الحياة.
جاءت أول صدمة بتحرير سعر الروبل أمام الدولار، ففقد الروبل ما بين 70 و 90 % من قيمته فى حالة مفزعة من التضخم. ولأن كبار السن ومن هم على سن المعاش كانوا يتلقون رواتبهم بهذا الروبل المسكين فقد كانوا الأكثر تعرضا وسحقا من الشباب القادر على تعلم لغة العصر والاندماج فى النظام الرأسمالى الجديد.
مات بالفعل آلاف البشر من صدمة القرار، وانتحر آخرون، وأفلس ملايين وتشرد فى الشوارع عدد لا يحصى.
حين وقعت هذه الأزمة الاقتصادية خرجت المرأة الروسية للعمل فى كل شىء لتحصل على رزقها اليومى لها ولمن تعول.
يفتح الرجال المصريون أفواههم إعجابا بالمرأة الروسية لجمالها الفاتن، لكن الحقيقة أن المرأة الروسية تستحق الإعجاب لأسباب أخرى عديدة، ليس أولها مطلقا الجمال الشكلى.
اكتسبت المرأة الروسية عبر الزمن تطويرا بيولوجيا ونفسيا وعصبيا لا يقدر عليه غيرها. ففى آخر 150 سنة على الأقل اقتيد الرجال المعارضون منذ العهد القيصرى إلى المعتقلات، أو انتزعوا من الفراش والبيت إلى جبهات القتال للدفاع عن الأرض ضد الألمان والفرنسيين والأتراك وغيرهم، أو وقفوا يشبكون الليل بالنهار أمام المصانع الفولاذية فى النيران ومن حولها، ومن بقى من الرجال فى البيت ونجا من المعتقلات والحرب وسخرة المزرعة والمصنع أصابهم اكتئاب عدمى فعاقروا الخمر وأصبحوا عالة على الزوجة أو الأم أو الأخت.
على هذا النحو عرفت المرأة الروسية العمل فى كل شىء وكانت كالرجال فى مواقف عديدة. وحين جاءت أزمة عام 1998 لم تتأخر المرأة عن المعركة.
على أرصفة ثلجية من صقيع قاتل يتجاوز 20 درجة تحت الصفر فى المدينة التى كنت أدرس فيها آنذاك عند الدائرة القطبية افترشن الشوارع، يبعن متاع بيوتهن أو مشغولات أيديهن من كوفيات للعنق وجوارب وقفازات صوفية.
شمل العمل كل النساء فى كل الأعمار: من الثلاثين إلى الثمانين.
من بين هذه الفئات العمرية كانت فئة «البابوشكا»، وهن النساء الأكثر من 70 عاما. تعمر المرأة الروسية طويلا بسبب برنامج الرعاية الطبية منذ العهد السوفيتى.
بابوشكا تعنى «الجدة» وكنت لولا فارق اللون الأسمر عندنا والأبيض الثلجى عندهن لقلت إنى كنت أرى فيهن صورة لجدتى لأمى التى تكفلتنى بالتربية بينما كان أبى وأمى يخوضان معركة الحياة فى مصر قبل 50 عاما.
هنا فى روسيا وعلى هذه الأرصفة الثلجية بصقيعها المرعب تجلس الجدات يبعن الفاكهة، ومن بين الفاكهة كانت هذه الكاكا التى تعرف فى روسيا باسم «خورما».
كان الزبائن يشترون من الجدات على الأرصفة لسبب اقتصادى بحت لا علاقة له بالشفقة أو المساعدة: من يشفق على من والكل مطحون؟ فالأسعار فى المحلات الرسمية التى تدفع كهرباء للتدفئة تزيد بنحو مرتين عن أسعار الجدات على قارعة الطريق الصقيعى تحت الثلوج المنهمرة.
كنا جميعا نعرف أن الميزان الصغير الذى تمسكه الجدات فى أيديهن ليس دقيقا وأن الكيلو جرام هو فى الحقيقة 800 جرام وربما أقل، ومع ذلك كان لهن زبائن دوما، وكنت واحدا من هؤلاء.
كانت عندى أسباب أخرى غير السعر، أحببت دوما أن أتحدث إليهن لأنهن كن يصبرن على لغتى الروسية المتمهلة البدائية التى كنت أتعلمها فى الجامعة صباحا، كن يصبرن على بحثى عن الفعل والتصريف كى أنطق الجمل صحيحة فلا يحدث التباس فى المعنى، اللغة الروسية ليست كالإنجليزية، فى الإنجليزية ترص كلمات بجوار بعضها بعضا فتصنع جملة مفيدة، الروسية تحتاج تصريفا وتبديلا وتقديما وتأخيرا حتى يفهمك محدثك بشكل صحيح ولا تحدث مواقف محرجة للغاية.
لم تكن الجدات فى عجلة من أمرهن وكان لديهن وقت كافٍ لتحمل لغتى البدائية.
هناك سبب آخر لكونى زبونا دائما عند الجدات على قارعة الطريق الثلجى، وهى أننى بطبعى أحب المشاكسة فكنت أسأل الواحدة منهن عن رأيها فيما يحدث فى هذه البلاد العجيبة الغريبة الشاسعة المدهشة المرعبة المبهجة.
كنت أتلقى دوما إجابات بليغة تبقى معى طيلة اليوم.
ذات مساء وأنا عائد من الدرس توقفت عند واحدة منهن لأشترى بعضا من الموز. كان الموز مستوردا من الإكوادور لأن مناخ روسيا لا يعرف الموز من قريب أو بعيد. سألت جدتنا البابوشكا الجميلة ذات الأسنان الذهبية التى ركبتها منذ زمن الشيوعية محل التى تساقطت بمرور الزمن: «ما هو الحل للخروج من الوضع البائس حاليا فى الاقتصاد المتعثر للبلاد؟».
أجابتنى على الفور: «ستالين... لا حل لنا يا ولدى سوى ستالين؟».
قلت لها بلغة التلاميذ السذج مندهشا ومستنكرا: «ولكن هذا الرجل فتح المعتقلات وقتل الملايين وكمم الأفواه والعقول».
ردت بكل بساطة «لا يهمنى كل هذا.. المهم ألا أجلس فى هذا الصقيع القاتل».
نعود إلى الكاكا.
فى الأسبوع التالى لحوارنا عن ستالين ذهبت إليها واشتريت منها كيلوجراما من الخورما ولكنى لاحظت هذه المرة أن الوزن قليل جدا، أقل حتى من 800 جرام بل إننى شككت أنه ربما لا يزيد على نصف كيلو.
سألتها بقليل من الاعتراض «ولكن الميزان مغشوش هذه المرة أيتها الجدة؟ هذا ليس كيلوجراما مطلقا؟».
أجابتنى بكل وقار وهى تهز رأسها كحكيم عرف الدنيا كلها: «معك حق طبعا...لكنى أقسم لك يا ولدى أننى أقل من يغش فى هذه السوق الكبيرة»، ألجمتنى كلماتها، فدرت ببصرى إلى السوق التى تعج بالجدات المكافحات والزبائن الكثر ضحايا التضخم وعدت إليها فابتسمت لها ابتسامة رضا وشكرتها وقبل أن أغادر حاولت هى أن تسترضينى، فقالت وهى تبدى الإعجاب: «ابتسامتك حلوة يا ولدى من أين أتيت بهذه الأسنان البيضاء؟».
قلت لها، لا شىء هنا يدعو للعجب أنت ترينها بيضاء بسبب التناقض الكبير بين لونى الداكن وأسنانى الفاتحة، وأنا على ثقة أن أسنانك وقت الشباب كانت أجمل منها، وعلى كل حال ما تزال ابتسامتك ساحرة أيتها الجدة».
أخذت الخورما وظلت عبارتها الحكيمة ترن فى أذنى منذ شتاء عام 1998 وحتى اليوم: «أنا أقل من يغش فى هذه السوق يا ولدى» علمتنى هذه العبارة الكثير، صرت لا أنتظر من نفسى ومن الناس الصفات المثالية الكمالية الجمالية، لم أعد أنتظر من نفسى ومن الناس كمال الحق والعدل والأمانة والحب والصدق فى الصور المثالية.
بت أقرب لأن أصدق أن أجملنا وأكملنا وأكثرنا فائدة هو الأقل غشا لا صاحب الأمانة المثالية، الأقل كذبا فى الحقيقة هو الأقل كذبا وليس الصادق الأمين كما الأنبياء، الأقل طمعا وشرها هو الذى يعيش بيننا ويجب أن نقبله ونتعامل معه لأنه يعيش هنا بيننا على قارعة طريق الحياة وليس ملاكا يجلس من دون اختبارات... هناك فى سمو الحضرة السماوية!