نظن أحيانا أن السلفية الدينية هى النمط الوحيد السائد فى المجتمع المصرى، لكن النظرة الفاحصة تكشف عن وجود أنماط متنوعة من السلفية تتجاور، وتتغذى على بعضها بعض. سلفية دينية، وأخرى ذكورية، وثالثة جيلية، يجمع بينها جميعا نزوع تلقائى إما للعودة إلى الماضى أو التحجر عند تصورات وممارسات جامدة، متحجرة تسندها مبررات واهية لا تصنع التقدم فى أى مجتمع.
هذه السلفيات الآن فى لحظة تحالف غير مكتوب بهدف الإبقاء على تمديد حالة التخلف الكاملة التى نعيشها.
(1)
هناك سلفية دينية ترى أن مستقبل هذا الوطن فى نموذج ماضوى ملتبس، يخرج عن نطاق الثقافة النهرية، وما أنتجته من فقه مصرى متسامح، لصالح ثقافة بدوية خشنة لها فقه خاص بها.
المرأة كائن قزم، يجب أن يغطى، ويضرب حتى يشعر باللذة، هذا ما ذكره نصا على الهواء الشيخ أبوإسحاق الحوينى، أحد القيادات السلفية، والآخر الدينى «كافر»، والمسلم غير المؤمن بالثقافة السلفية، فكرا وممارسة، هو فى نظر السلفيين «عاصي».
الاجتياح السلفى الذى يعانى منه المجتمع المصرى فى الوقت الراهن أربك الثقافة المصرية، وأدى إلى تخفيض منسوب التسامح فى المجتمع، ورفع مستويات التشدد، وأضفى عليه مسحة شكلية قاسية، جعلته شكليا على السطح، ملتبسا فى الباطن.
والغريب أن السلفية الدينية بهتت على الأقباط، وجعلتهم فى أحيان كثيرة ينحون ذات الوجهة، سواء فى الاهتمام المفرط بالشكل على حساب الجوهر أو فى الترصد للأعمال الإبداعية أيا كانت. هناك حالة تواطؤ ضمنى مع هذا التيار، لا أحد يوجه إليه نقدا، ولاسيما فى تشابكاته مع الأنماط السلفية الأخرى.
(2)
هناك سلفية ذكورية، ترى فى حضور المرأة والمختلف دينيا تهديدا صريحا لها. وهى فى ذلك تتغذى على السلفية الدينية سواء بشكل سافر بالإحالة إلى تبريرات دينية، أو بالتعبير عن الإشفاق والحنو على المرأة.
وكلاهما تعبير صريح عن ذكورية سلفية. كشف عن هذه السلفية رفض الجمعية العمومية الطارئة لمستشارى مجلس الدولة مرتين تعيين المرأة قاضية، الأولى بأغلبية تناهز التسعين بالمائة، والثانية بأغلبية تصل إلى مائة بالمائة.
تعرض القرار لنقد من جانب المنظمات النسائية، والأحزاب السياسية، باعتباره مخالفا لنص المادتين الأولى والأربعين من الدستور المصرى، التى تستند إلى مبدأ المواطنة، والمساواة بين المصريين بصرف النظر عن الاختلاف فى اللون أو الدين أو الجنس أو العرق.
بالطبع لسنا بحاجة إلى الحديث عن أن المرأة المصرية وصلت إلى أعلى المناصب، ولم يظهر فى عملها تقصير أنثوى يميزها عن الرجل. الملفت أن هؤلاء الذين يعترضون على تولى المرأة مواقع القيادة والسلطة، يتقاضون رواتبهم من ميزانية الدولة التى تعد عوائد السياحة الوافدة مصدرا أساسيا لها، والتى تعبر عن انبهار خاص بالشخصيات النسائية العظيمة فى تاريخ مصر مثل «كليوباترا» و«حتشبسوت» أى أن أموات نساء المصريين تمولن ذكورية الجيل الحالى.
الغريب أن يصمت دعاة الديمقراطية والإصلاحيين عما يجرى، ويعتبرون الأمر معركة فرعية. وهى ليست كذلك، بل إنه يقبع فى صلب عملية التحول الديمقراطى. هذا التواطؤ بالصمت لا يجد ما يبرره، ولاسيما أنه يجارى نزعة ذكورية ليست فى محلها. الغريب أن يصدر عن قاضٍ لديه خطابات حالية مطالبة بالديمقراطية، رفض صريح لتولى المرأة منصة القضاء، لكنه يقف الآن موقفا سلبيا إزاء تعيين المرأة فى إحدى المؤسسات القضائية، ويتعلل بعدم ملائمة الوظيفة لطبيعة المرأة، وهو أمر مردود عليه، لكن ما يلفت هو النظرة الضيقة، المحدودة لفهم «الديمقراطية»، التى تسيطر على عقول وأفئدة قطاع من النخبة المصرية.
(3)
السلفية الجيلية، هى مظهر آخر من مظاهر السلفية الجاثمة على المجتمع المصرى، حيث نجد مجموعة من الكهول تأبى أن تترك مواقعها للجيل التالى لها، أو جيل الشباب.
ويبررون ذلك بالحاجة إلى الخبرة، وحنكة السنين، والرغبة فى استكمال التطوير، إلى آخر الحجج الواهية، التى تكشف عن أنانية مقيتة لدى أبناء هذا الجيل من النخبة العتيقة. بالطبع التعميم فى هذه الحالة لا يصح، ولكن إذا وجد من هم فى موقع الحكمة والعلم من أبناء هذه النخبة، فإن هناك من هم فى موقع الإقصاء والرفض للمختلف من بين أبناء هذه النخبة أيضا.
الشواهد على ذلك كثيرة ولا تحتاج إلى بيان. والملفت أن أيا منهم لا يجيب عن تساؤل أساسى: إذا كان دورهم محوريا وأساسيا فى بناء الهياكل، ونقل الخبرات، وتطوير الأداء فلماذا تشهد البلاد تراجعا فى الأداء فى جميع المجالات على أيديهم؟.
هؤلاء الكهول هم لاعبون ماهرون، يعبرون عن بقايا الشمولية، التى تربوا عليها. أيدوا الاستبداد، والآن يطالبون بالديمقراطية. صنعوا الدساتير الفاسدة، ويسعون الآن إلى تبوأ الصفوف المطالبة بتعديلها، انتهكوا حقوق الإنسان فى كافة المواقع، والآن يطالبون بها، ويلحون عليها.
وهم لا يتورعون أن يسحقوا أجيالا بأكملها حتى يبقون فى مواقعهم سواء بتحطيم إرادتهم. صنعوا التردى، والآن يبررون بقائهم بمواجهة التردى. مؤسسات تداعت على أيدى أبناء هذه النخبة التى تعاند الزمن، وتريد أن تبقى على أكتاف غيرها.
فى مواقع عديدة من صناعة القرار تستمع إلى روايات تعبر عن إحباط أبناء الجيلين الوسيط والشاب، الذين تولوا مواقع قيادية مما يشنه عليهم أبناء هذه النخبة، التى تعانى من شيخوخة فكرية وعمرية، ولم يعد لديها ما تقدمه سوى حكايات الزمن السالف، التى لا تخلو من خيال الأكاذيب، أو تصورات باهتة، ضعيفة عن المستقبل، الذى لم يعد لهم، ولن يكون لهم. أين هم من عالم يتشكل من جديد على نحو متسارع، ملامحه الأساسية هو التطور العلمى والتكنولوجى، الثورة الرقمية، والتحولات المستمرة فى مناهج البحث العلمى.
من جانبى، فإننى أدعو أبناء الجيلين الوسيط والشاب إلى توثيق ذاكرة العمل المؤسسى، وكشف تواطؤ هذه النخبة، وخطاباتها المزدوجة، ودروبها غير المستقيمة، ولعل ذلك يكون مدخلا مهما لتطوير الذات، وبناء منطلقات جديدة فى التفكير والعمل. فى الدول المتقدمة فإن مواقع القيادة فى المؤسسات العامة والخاصة هى لأبناء الجيلين الوسيط والشباب، ويعتبرونها سنة من سنن الحياة.
معظم الاقتراحات التى غيرت وجه البشرية قدمها شباب، ولم نجد فى هذه المجتمعات من يدعى قوامة جيلية لا معنى لها.
(4)
حين تتعانق السلفيات المتنوعة يصبح أمل المجتمع فى التقدم باهتا. الخطابات الدينية المتشددة، تتجاور مع الخطابات الذكورية الاقصائية، يغلفها نزوع جيلى كهولى لاحتكار مواقع الإدارة والسلطة.
مجتمع يغرق حتى آذنيه فى خطابات القوامة، رجال قوامون على النساء، ومسلمون قوامون على الأقباط، وكهول قوامون على الشباب، حالة من التبعية، وعلاقات للمتبوع بالتابع تخلو من الندية، والمساواة، والقدرة على التعبير الحر عن الآراء والمواقف.
هل لهذا المجتمع من فرص فى التقدم؟ الشواهد تبعث على التشاؤم، فلا أمل إلا من خلال بعث روح ثقافية جديدة، تقدر قيمة الاحترام المتبادل بين المختلفين دينيا وجنسيا، وقيمة تداول السلطة والمواقع العامة، وقيمة الكفاءة بصرف النظر عن إدعاءات السمو الجيلى، وقيمة الشفافية فى مناقشة القضايا العامة، وقيمة الوسطية فى النظر إلى الشأن الدينى، والأهم قيمة النزاهة التى تجعل الشخص متسقا مع نفسه، رافضا الخطابات المزدوجة، والصور المتداخلة.