وجّه الرئيس الليبى معمر القذافى تهديدين إلى أوروبا. قال فى التهديد الأول إنه إذا سقط نظامه فإن البديل سيكون تنظيم القاعدة. وان هذا التنظيم سوف يجعل من ليبيا مسرحا لعمليات ارهابية تستهدف المصالح الغربية النفطية داخل ليبيا ذاتها، وأنه سوف يجعل منها أيضا منطلقا لضرب الأمن الأوروبى فى عقر داره.
وفى التهديد الثانى قال الرئيس القذافى ان سقوط نظامه سوف يحوّل ليبيا إلى جسر عبور للمهاجرين الأفارقة إلى أوروبا. وان ذلك سوف يغرق دول الاتحاد الأوروبى بعشرات الآلاف من المهاجرين غير المرغوب فيهم.
إذا كانت تهديدات القذافى صحيحة، فان لها وجها آخر من المعانى. بالنسبة للتهديد الأول فإنه يوحى بأن النظام الليبى يقوم بدور الحارس للمصالح النفطية الأوروبية فى ليبيا. وأنه يشكل فى الوقت ذاته الخندق الأمامى فى وجه تنظيم القاعدة، للدفاع عن الأمن الأوروبى بل حتى لإسرائيل كما صرح بذلك للتليفزيون التركى. وهذا ما يفسر قول الرئيس الليبى أنه إذا سقط نظامه، سقط الأمن النفطى.. وتعرّض الأمن الأوروبى والإسرائيلى للخطر.
وبالنسبة للتهديد الثانى فإنه يوحى بأن النظام الليبى يلعب دور الشرطى الأمامى لصد موجات الهجرات الأفريقية إلى أوروبا. وانه بالتالى يحوّل ليبيا إلى معسكر اعتقال كبير للأفارقة الذين يتطلعون إلى الهجرة إلى أوروبا والذين يحاولون استغلال الموقع الجغرافى الليبى الملائم للتسلل إلى أقرب مرفأ أوروبى على الشواطئ الإيطالية. علماَ بأن القذافى أعلن نفسه «ملك ملوك أفريقيا»!!.
والواقع أن الرئيس الليبى ليس نسيجا وحده فى ذلك، «فدبلوماسية التخويف» كانت الأساس الذى اعتمدت عليه أنظمة اوتوقراطية عربية عديدة للدفاع عن استمرارها بدعم وتشجيع من الولايات المتحدة، والاتحاد الأوروبى معا، على مدى العقود الستة الماضية.
وقد اعتمد هذه الدبلوماسية الرئيس المصرى السابق حسنى مبارك عندما استطاع أن يجعل من حركة الإخوان المسلمين «بعبعا» يخيف به الغرب. واستطاع أن يصنع واقعا افتراضيا يقول بإن البديل عن نظامه الملتزم بمعاهدة السلام مع إسرائيل، والمتصدى للانفلاش المذهبى الإيرانى فى الشرق الأوسط، والداعم لأصدقاء الغرب فى المنطقة، والمحافظ على مصالحه النفطية والتجارية، أن البديل عن هذا النظام الذى يؤدى كل هذه المهام الاستراتيجية، هو نظام على شاكلة ما هو موجود فى ايران، يكون الإخوان المسلمون قوامه وأساسه.
وخوفا من هذا الكابوس ــ البديل ــ تجاهل الغرب القيم الانسانية التى تحفل بها قوانينه ومعاهداته المشتركة، وتنكر للمبادئ التى يدعى انها تحكم علاقاته الخارجية وفى مقدمها الدفاع عن الديمقراطية وعن الحريات العامة والكرامة الإنسانية.
وقد اعتمدت دبلوماسية التخويف من «البعبع» الاسلامى فى الجزائر ايضا (حركة الأفغان العرب)، وذلك منذ التسعينيات. كما اعتمدت فى سوريا كذلك منذ أواسط الثمانينيات من القرن الماضى (تمرد حماة). واعتمدت أيضا فى تونس أقرب دول المغرب العربى إلى فرنسا. ورغم كل الشعارات الانسانية التى تعتبر فرنسا أنها مؤتمنة عليها منذ الثورة فى عام 1879 فقد كانت دائما تدافع عن نظام الرئيس السابق زين العابدين بن على حتى أنها عرضت عليه المساعدة العسكرية لكبح جماح الانتفاضة فى أيامها الأولى. وكانت وزيرة خارجيتها تقضى اجازتها الخاصة فى تونس بضيافة أحد أقرباء الرئيس التونسى السابق خلال الانتفاضة الشعبية التى أطاحت به. وقد اعتبر سلوكها فضيحة دبلوماسية اضطرت على أثرها إلى الاستقالة من منصبها، ليحلّ محلها الوزير المخضرم الن جوبيه.
وقدمت نتائج الانتخابات الفلسطينية التى فازت فيها حركة حماس فى غزة دليلا مقلقا للغرب على ما يعنيه فعلا وصول حركة إسلامية متطرفة إلى السلطة فى الدول العربية، غير أن الوقائع تناقضت مع هذه الحسابات.
فإسقاط الرئيس مبارك فى مصر لم يعبد الطريق أمام حركة الإخوان المسلمين. وإسقاط الرئيس بن على فى تونس لم يفتح أبواب قصر قرطاج أمام حزب النهضة الإسلامى التونسى.
ثم إن ما هو معروف ومتداول على نطاق واسع أن لتنظيم القاعدة خلايا عاملة فى اليمن. وأن الرئيس على عبدالله صالح كان يخوض معارك ضدها بمساعدة عسكرية ولوجستية من الولايات المتحدة. ولكن ليس معروفا ولم يكن فى التداول السياسى أو حتى الإعلامى وجود خلايا للقاعدة فى ليبيا.
يعرف الرئيس معمر القذافى جيدا قصة الرئيس العراقى السابق صدام حسين مع الولايات المتحدة ومع تنظيم القاعدة. فقد اتهمته إدارة الرئيس جورج بوش بأنه يملك أسلحة دمار شامل. واتهمته بإقامة علاقات تعاون وثيقة مع تنظيم القاعدة. وخرجت من ذلك بمعادلة تدّعى أن هذه العلاقات تشكل جسرا طبيعيا لانتقال أسلحة الدمار الشامل إلى عناصر القاعدة، الأمر الذى يهدد أمن الولايات المتحدة وحلفائها. كانت تلك الكذبة الكبرى، الأساس الذى اعتمدته الولايات المتحدة وبريطانيا لاجتياح العراق. والآن يحاول الرئيس القذافى إعادة إنتاجها لتوظيفها باتجاه آخر. أى باتجاه تحريض الغرب (أميركا وأوروبا) لدعمه فى وجه تنظيم القاعدة الذى يدّعى انه المسئول عن الثورة التى تفجرت فى بلاده.. والتى يهدد بأنها سوف تحمل إلى الشاطئ الشمالى من المتوسط الموت والدمار والخراب؟!.
وبذلك يكون الرئيس القذافى قد شهر ثلاثة مسدسات فى وجه الغرب مهددا بإطلاق النار منها، إذا تعاون الغرب مع الثائرين عليه.
المسدس الأول هو النفط. والمسدس الثانى هو الهجرة الافريقية. أما المسدس الثالث والأشد فعالية فهو تنظيم القاعدة.
فى الأيام الأولى من الانتفاضة الليبية بدا وكأن الغرب واقع تحت رحمة التهديد بالتعرض لإطلاق نار من واحد من هذه الأسلحة، أو منها جميعا. كان مهتما بضمان استمرار تدفق النفط الليبى، وبضمان سد الطريق أمام الهجرات غير الشرعية وبضمان ضرب القوى الإسلامية المحلية. ولذلك كانت حركة تعاطفه مع الانتفاضة بطيئة وخجولة.. ولكنه فى المرحلة التالية من الانتفاضة أدرك أن هذه الأسلحة وهمية وأنها مجرد أدوات تخويف. مما أعطى حركة التعاطف زخما تمثل فى التهديدات التى أطلقها الرئيس الأميركى باراك أوباما، كما تمثل فى خطط الاتحاد الأوروبى لتنفيذ حظر جوى على ليبيا بعد استخراج قرار بذلك من مجلس الأمن الدولى، وذلك بهدف وقف قصف الطيران العسكرى الليبى للمدن المتمردة على نظام الرئيس القذافى.
من هنا السؤال: هل توقف الغرب عن الاعتقاد بأن حركات التطرف الاسلامى هى البديل الوحيد للأنظمة الأوتوقراطية؟. وهل تحرر من الخوف من قدرة هذه الحركات على السيطرة المطلقة على أنظمة الحكم؟. وهل علمته تجارب الانتفاضات (من المغرب على المحيط الأطلسى إلى سلطنة عمان على بحر العرب مرورا بالجزائر وتونس وليبيا ومصر والأردن والعراق والبحرين واليمن) وجوب احترام المبادئ والقيم التى ينادى بها والتى تزخر بها أنظمته وقوانينه ومواثيقه الدولية؟. وهل أدرك أخيرا ــ أو متأخرا ــ ان المحافظة على المصالح الدولية لا يعنى بالضرورة التنكر للقيم الإنسانية؟.