فى كتابه «فى الأرض القديمة» يحكى الروائى الهندى الشهير أميتاف جوش تجربته فى العيش فى قرية مصرية بمحافظة البحيرة فى أواخر السبعينايت أثناء إعداده رسالة الدكتوراه فى الأنثروبولوجيا الاجتماعية والتى يقتضى منهجها المعايشة الكاملة للمجتمع المبحوث. والكتاب ليس فقط وثيقة أنثروبولوجية مهمة عن الريف المصرى فى فترة تحول فاصلة ولكنه أيضا نافذة على «حوار حضارات» من نوع خاص لا ينغصه الإطار الاستعمارى الذى ميز على سبيل المثال دراسات المستشرقين عن مصر.
يحكى أميتاف جوش عن حياته وسط الفلاحين المصريين وعن تجربته كباحث تحول إلى مبحوث. يسأله الفلاحون عن كل ما يتعلق بالهند. هل هناك فلاحون مثلهم فى الهند؟.. وماذا يزرعون؟.. ويعجبون من وجود زراعة مطرية هناك ويعجبون أكثر من قول الباحث إن فى الهند من هم أفقر من أفقر المصريين. تتكرر الأسئلة مع كل مقابلة جديدة ودائما ما يصل الحوار إلى النقطة الأكثر إثارة لدهشة الفلاحين والأكثر إرباكا للباحث وهى النقطة المتعلقة بهويته الدينية. هل أنت مسلم؟ لا. مسيحى؟.. لا. يهودى؟.. لا. وعندما يخبرهم بأنه هندوسى يواجه بالدهشة المستنكرة: أنتم الذين تعبدون البقر وتحرقون الموتى؟.. وعبثا يحاول أميتاف أن يشرح أن الأمر ليس كذلك تماما وأنها طقوس دينية يجب فهمها فى سياق معناها بالنسبة للمؤمنين بالديانة الهندوسية.
ويتكرر هذا المشهد على مدى إقامة أميتاف بالقرية، حتى كان يوم دعا فيه إلى عرس بالقرية وأجلسه مضيفه فى الغرفة الداخلية مع ضيوف الشرف الآخرين وكان أغلبهم من خارج القرية فأثار فضولهم هذا «الدكتور الهندى» كما كان يعرف بالقرية وأمطره المدعوون كالعادة بالأسئلة وكالعادة أيضا وصل الحديث إلى نقطة الطقوس الهندوسية. فى ذلك اليوم فقد أميتاف أعصابه وغادر المكان فى غضب. لحقه مضيفه «نبيل» متسائلا فى دهشة عما أغضبه ولما لم يلق إجابة قال له نبيل: «إنها مجرد أسئلة ولا يمكن لذلك أن يتسبب فى أى أذى. لماذا تنزعج هكذا من حديث الأبقار وحرق الموتى؟.. إنهم يسألونك كما تسأل أنت، بدافع الفضول لا أكثر ولا أقل».
وهنا يقول أميتاف فى أحلى مقاطع الكتاب: «كثيرا ما تمنيت لو كنت قد قصصت على نبيل حكاية». ثم يبدأ فى سرد قصة من طفولته حين كان فى الثامنة وكان أبوه دبلوماسيا فى دكا عاصمة بنجلاديش. فى أحد الليالى رأى أميتاف الطفل جموعا من النساء والرجال والأطفال يهرعون إلى داخل حديقة منزلهم بأعداد غفيرة للاحتماء داخل أسوارها العالية. وأمره أبوه ليلتها أن يبقى فى الغرفة العلوية ولا يغادرها أبدا. وبالطبع دفعه الفضول إلى مغادرة الغرفة والنظر من الشرفة ليجد جموعا من الناس يحملون المشاعل يحاصرون أسوار المنزل فى محاولة لاقتحامه. عرف أميتاف لاحقا أن المحاصرين كانوا من الأقلية الهندوسية وأن المهاجمين من المسلمين وأنه لولا تدخل أصدقاء والديه من المسلمين باتصالهم بالشرطة فى الوقت المناسب كانت الجموع الهائجة قد اقتحمت المنزل وأحرقتهم جميعا. وعرف أيضا لاحقا أنه فى نفس ذات الليلة كانت هناك أحداث عنف طائفى مماثلة تماما فى مدينة كلكتا لكن الفرق هناك أن المحاصرين كانوا من الأقلية المسلمة والمهاجمين من الأغلبية الهندوسية.
يحكى أميتاف عن بلاده حيث تقطع أوصال الرجال بسبب ارتداء المرء لزى دون آخر وتبقر بطون النساء لارتدائهن غطاء رأس دون آخر. ويحكى عن عجزه عن شرح ذلك لنبيل أو أى من الفلاحين المصريين فى القرية بسبب الهوة التى تفصل عالمه عن عالمهم، ويقول: «رغم الأحداث العاصفة والتقلبات التى شهدتها هذه البلاد (مصر) ورغم الحروب التى خاضوها فإن عالمهم كان أرق بمراحل وأقل عنفا بمراحل وأكثر إنسانية وبراءة بمراحل من عالمى. ولم يكن لدى أمل أن يفهموا سر ذعر الهندى من رموز التمييز».
لابد أن أميتاف حين عاش معنا منذ نحو ثلاثين عاما لم يخطر له أن الريف المصرى الذى وجد فيه ملاذا وجدانيا ومرجعا للدفء والإنسانية سوف يصبح مسرحا لمشهد الجموع ذات المشاعل والتى تحكم الطوق على عائلات من أقلية دينية لتحرقها، ذات المشهد الذى أرق طفولته وثبت فى وعيه أن الاختلاف الطائفى ليس مزحة.
حين كان أميتاف معنا كانت الهند أقل تقدما مما هى عليه الآن وكانت مصر أكثر رقة. الآن سبقت الهند مصر فى التنمية ولحقتها مصر فى الهوس الطائفى. ارتقت الهند درجات فى مجالات الاقتصاد والتكنولوجيا (والديمقراطية طبعا) وارتقت مصر درجات فى سلم الفرز والتمييز.