حظيت مرة بفرصة مقابلة أحد أصحاب المشاريع الكبرى للإسكان الفاخر وحكى أن الشركة قامت ببحث للتعرف على تفضيلات الشريحة الاجتماعية المستهدفة بمشاريعهم وعن فكرتهم عن السكن المثالى، وخلص البحث إلى أن الفكرة السائدة وسط هذه الشريحة من الطبقة الوسطى العليا هى أن السكن الراقى والمميز يتطابق مع ما يشاهدونه فى الأفلام والمسلسلات الأمريكية والغربية بصفة عامة من فيللات مستقلة ذات أسقف قرميد مائلة تحيطها حدائق كبيرة وبحيرات وما إلى ذلك.
•••
السعى وراء التميز الاجتماعى من خلال اختيارات أساليب الحياة من شكل المسكن وطريقة الملبس وما إلى ذلك أمر عادى وتتميز به المجتمعات كافة، ولا بأس أن قطاعات اجتماعية من المصريين ترى أن طريقها إلى التميز هو اقتباس جوانب من ثقافات أخرى فليس فى ذلك ما يشين على الإطلاق ولا بأس أيضا أن تحاول مشاريع الإسكان أو غيرها من المشاريع التجارية أن تجتذب فئات بعينها من خلال توفير ما يروق لأذواقها، ولا ضرر فى الأمر لو اقتصر على السقف القرميد المائل (رغم عدم ملاءمته للظروف المناخية المصرية، حيث لا توجد الأمطار الغزيرة التى من أجلها انتشر هذا الشكل فى البلاد التى نشأ فيها). المشكلة أن هذا الشكل من البيوت ارتبط شرطيا بخلفية مشهد الطبيعة الغناء وهى ليست من الطبيعة فى شئ بل هى أنواع من الزراعة باهظة التكلفة ليس فقط من الناحية المادية ولكن من ناحية الموارد المائية، التى تسفك فى سبيل تحويل مناطق ذات طبيعة صحراوية بلا مصادر للمياه إلى «أميال من المساحات الخضراء والبحيرات»، حيث سنعيش بحرية وسط «الطبيعة» كما يبشرنا أحد إعلانات تلك الشركات. تكمن المشكلة فى أن الكثير من علامات الرقى والتميز التى يروج لها هذا النوع من أساليب الحياة (اللايف ستايل) تنطوى على هدر صريح لموارد مائية عزيزة.
•••
ولى هنا ملاحظتان. أولا: تواجه مصر معركة حياة متمثلة فى التهديد الذى يمثله سد النهضة على مواردنا المائية. ويعد الفقر المائى إحدى الحجج الأساسية التى تدفع بها مصر فى معركتها هذه، إلا أن طريقة استهلاك المياه للشرائح العليا فى مصر تضعف تماما من تلك الحجة، ومن الصعب على أى عابر فى القاهرة، وهو يرى الإعلانات تحيط به من جميع الجهات عن الفيلات ذات حمامات السباحة الخاصة وتجاورها البحيرات الصناعية وملاعب الجولف و«أميال المساحات الخضراء» ــ من الصعب أن يقتنع أن هذا البلد يعانى من فقر مائى وأغلب الظن سيستنتج أن لدينا فوائض مائية أو أن ما نعانى منه هو سفه مائى وليس فقرا مائيا.
ثانيا: على من يريد أن يحاكى التميز على الطريقة الغربية أن يعرف أن احترام البيئة والموارد الطبيعية أصبح من أهم محددات التميز والعلامات على الرقى، وأن النظرة إلى السلوك الذى ينطوى على هدر الموارد أو تلويث البيئة أصبح مستهجنا، كما ظهرت على سبيل المثال حركات «السياحة الأخلاقية»، والتى تقوم بحملات ضد الدول التى تقوم بمشاريع سياحية تهدر مواردها أو تدمر بيئتها ومثال على ذلك الحملات ضد ملاعب الجولف فى الأماكن ذات الطبيعة الصحرواية، والتى تتميز بندرة المياه.
•••
يوهموننا أن أزمة المياه سببها الزيادة السكانية وقد يكون ذلك صحيح جزئيا. لكن الحقيقة أن المشكلة الأساس هى أن سياستنا المائية غير أمينة على مواردنا ويظهر ذلك جليا فى السياسة المائية الخاصة بالزراعة ولكن لذلك حديث آخر. المشكلة ليست فى عدد السكان بل فى أن الطبقات الاجتماعية من الشرائح العليا عددها قليل واستهلاكها عظيم بانجذابها إلى أساليب حياة مكلفة جدا من ناحية الموارد. ليت هؤلاء يدركون أن التميز الاجتماعى والرقى لا يلتقيان مع سلوك يتميز بالهدر والسفه وتدمير البيئة وأن احترام البيئة والاستهلاك المسئول للمياه هو السلوك «الأشيك» والفرصة الأعظم لراغبى التميز.
باحثة مصرية