أسس الاقتصاد الأمريكى مكانته بعد الحرب العالمية الثانية بانتصاره فى ميادين الحروب وبانتصار اقتصادى موازٍ بعد أن انقضت الحرب وبحوزته فعليا ثلثى الذهب فى العالم، وبعد أن أمنت له اتفاقية بريتون وودز أن يكون الدولار هو محور نظام النقد الدولى وآلياته واعتباره عملة المعاملات والسيولة الدولية.
وصف أحد الاقتصاديين الأمريكيين ذلك بقوله: من دواعى السرور أن يكون لدى الولايات المتحدة فى فنائها الخلفى مطبعة للعملة الورقية، فمعيار الذهب التبادلى بالدولار قد منحنا هذا الامتياز.
مع مرور السنوات وانغماس الولايات المتحدة فى الحروب والصراعات فى مختلف أنحاء العالم، والتوسع الهائل فى الإنفاق العسكرى الأمريكى، ظهر عجز الميزان التجارى الأمريكى مصحوبا بارتفاع مستويات التضخم فى الولايات المتحدة، التى واصلت طباعة المزيد من الدولار.
أتاح لها نظام النقد الدولى واتفاقية بريتون وودز أن تفعل ذلك باطمئنان لتمويل عجز ميزان مدفوعاتها باعتبار الدولار هو عملة السيولة الدولية، وباعتبار أن دول العالم تقبل الدولار كغطاء نقدى اعتمادا على قابليته للتحويل إلى ذهب، ومن ثم باتت الولايات المتحدة تتوسع فى إصدار الدولار، وفى ذات الوقت تنقل التضخم المرتبط بتوسعها النقدى إلى جميع أنحاء العالم، دون ثمن حقيقى يتكبده الاقتصاد الأمريكى.
ولما تكشفت الحقيقة الصادمة من أن الأرصدة الدولارية لدى الدول تقدر بحوالى 35 بليون دولار، فى حين كانت الأرصدة الذهبية الأمريكية لا تزيد عن 11 بليون دولار، انتهى الأمر بإعلان الرئيس نيكسون فى 15 أغسطس 1971 رسميا إيقاف الولايات المتحدة تحويل الدولار إلى الذهب.
ثم قامت حرب أكتوبر 1973 وحققت على أثرها الدول المصدرة للنفط إيرادات نفطية هائلة، ثم قيام هنرى كيسنجر وزير الخارجية الأمريكى بالاتفاق مع كبار منتجى النفط على اتخاذ الدولار عملة التسعير الوحيدة للنفط، واستثمار الفوائض النفطية فى سندات الخزانة الأمريكية، وبحلول عام 1975 ربطت دول الأوبك صادراتها النفطية بالدولار. فعزز ذلك من مكانة الدولار على الساحة العالمية كعملة للسيولة الدولية وتصاعد الطلب العالمى على الدولار ليتعمق ارتباط الاقتصاد العالمى بالدولار، الذى بات عملة تحديد الأسعار والمعاملات الدولية، كما باتت فوائض الدولار هى المصدر الفعال للتمويل والاستثمار فى الاقتصاد العالمى.
وإلى اليوم تتحدد السياسات النقدية للدول تأثرا بالسياسات النقدية لبنك الاحتياطى الفيدرالى الأمريكى، مع اعتماد نظام النقد الدولى بدرجة كبيرة على الدولار باعتباره عملة الاحتياط والسيولة الدولية، وأمكن ذلك الولايات المتحدة أن تطبع ما تشاء من الدولار وتحصل على ما تشاء من السلع والخدمات مقابلة دون حدود، فتشترى من دول العالم كل احتياجاتها من كل شىء مقابل أوراق نقدية تصدرها دون أن تكلفها سوى قيمة طباعتها.
• • •
مع اندلاع الأزمة العالمية عام 2008 قام بنك الاحتياطى الفيدرالى بطباعة 90 مليار دولار، وخلال الموجة الأولى من الأزمة، قام الاحتياطى الفيدرالى بطباعة 1.3 تريليون دولار. أما خلال أزمة وباء كوفيد 19، بدأت حملة جديدة مسعورة لطباعة الدولار، فتمت طباعة أكثر من 3 تريليونات دولار خلال عام 2020 فقط، وفى مارس 2022 عاد بنك الاحتياطى الفيدرالى ليطبع 1.8 تريليون دولار أخرى.
المؤشرات الحالية داخل الاقتصاد الأمريكى جد خطيرة، فقد تخطى الدين العام الداخلى نسبة 125% من الناتج المحلى الإجمالى ليبلغ قرابة 33 تريليون دولار، فى ظل ارتفاع غير مسبوق فى مستويات التضخم، وقرارات بنك الاحتياطى الفيدرالى الأمريكى برفع سعر الفائدة ثمانية مرات متوالية للسيطرة على التضخم، تم تدمير بيئة عمل الشركات الناشئة التى اضطرت لزيادة السحب من ودائعها لتغطية نفقاتها التشغيلية.
وفى ظل تلك الحالة من الاضطراب تلقى بنك سيليكون فالى طلبات من عملائه بسحب 42 مليار دولار فى يوم واحد، وتلاه فى ذات الموقف العصيب بنك سيجنتشر، ثم كان أن فقدت البورصات الأمريكية نحو 100 مليار دولار والبورصات الأوروبية أكثر من 20 مليار دولار فى ذات الأسبوع.
أثناء الانهيار المتسارع للنظام المصرفى الأمريكى، طبع بنك الاحتياطى الفيدرالى 391 مليار دولار، ومن المتوقع أن يستمر على ذات النهج المسعور فى الطباعة بلا قيود، بحيث يقدر البعض أنه بنهاية هذا العام ستكون الولايات المتحدة قد طبعت 8 تريليونات دولار، وهو ما سيحدث موجة تضخمية عاتية ستضرب الاقتصاد الأمريكى ومن خلفه الاقتصاد العالمى.
• • •
أخيرا وبعد أن عانت كافة الدول من تلك الأوضاع لعقود طويلة، بدأت تتشكل فى الأفق ملامح تحولات كبرى، فتحوُّل العملة الصينية إلى «عملة عالمية» أصبح توجّه مؤكد مع تنامى القوة الاقتصادية الصينية. وسيُستخدَم اليوان لتسعير عقود التجارة والمعاملات الدولية، وستضطر البنوك المركزية إلى الاحتفاظ باليوان كجزء من احتياطياتها من العملات الأجنبية، وسيتصاعد الطلب العالمى على اليوان.
ومن جهة أخرى، فإن الدول الأعضاء فى تجمع البريكس: البرازيل، وروسيا، والهند، والصين، وجنوب أفريقيا، فى طريقها لإنشاء عملة البريكس فى إطار هذا التجمع الاقتصادى الضخم، والمستقبل القريب سيشهد انضماما كاملا لدول مؤثرة مثل مصر والسعودية.
وفى أمريكا الجنوبية فقد تم طرح مشروع مشترك بين البرازيل والأرجنتين، وهما أكبر اقتصادين، فى القارة لإطلاق عملة موحدة جديدة بهدف تعزيز التجارة الإقليمية وتقليل الاعتماد على الدولار الأمريكى، فى ظل ترحيب عدد من دول أمريكا الجنوبية للانضمام لتلك العملة.
أما الحرب الروسية الأوكرانية، فقد أسفرت فى خضم الصراع عن قرار الحكومة الروسية بأن تكون المدفوعات مقابل النفط والغاز الروسى بالروبل، كما تمكنت روسيا من عقد اتفاقيات مع الصين والهند ودول أخرى بأن تكون معاملاتها الدولية بعملاتها تجنبا لاستخدام الدولار، وهو ما شكل ضربة أخرى للدولار.
وبقيام الولايات المتحدة وحلفائها وحتى سويسرا، بتجميد الأصول والأرصدة الروسية، ثم تهديدها المستمر بمصادرتها بذريعة التعويضات لأوكرانيا، فقد فقدت بذلك القرار ثقة العديد من الدول التى تحتفظ بأرصدتها وتمتلك أصولا مالية ضخمة فى الولايات المتحدة، وباتت العديد من الدول فى خوف من تعرض أرصدتها وأصولها للتجميد والمصادرة حال حدوث أزمة بينها وبين الولايات المتحدة.
العالم اليوم ليس كما الأمس، السياسة النقدية الأمريكية وطباعة الدولار بلا ضوابط ولا حدود، باتت تلحق الضرر الشديد بالدول واقتصادياتها، وهو ما أدركته كافة الحكومات بلا استثناء. والآن يجرى العمل بطيئا ولكن حثيثا بواسطة العديد من الدول لنزع ذلك الطوق الحديدى المالى للعملة الأمريكية والتحرر من سطوتها وهيمنتها.
التحولات الكبرى على ساحة السياسة والاقتصاد العالمى قادمة لا محالة، ونذر النظام السياسى والعالمى الجديد باتت تتجلى فى الأفق، وإن غدا لناظره قريب.