أنا واحد من كثيرين من المصريين (ربما معظمهم)، الذين يشعرون منذ فترة ليست بالقصيرة، بإحباط شديد بعد مرور أكثر من ثلاث سنوات على ثورة 25 يناير 2011، وبالرغم من قرب انتهاء ما يسمى بالمرحلة الانتقالية ومجىء انتخابات رئاسية جديدة.
أسباب الإحباط كثيرة، ويطول شرحها. ومظاهر الإحباط أيضا كثيرة، وأصادفها تقريبا فى كل من أقابلهم، ما أسرع أن يسألك شخص، حتى ممن لم يسبق أن قابلته من قبل، عما إذا كان لا يزال لديك أى سبب للتفاؤل، فى ظل حالة الأمن، والاقتصاد، والسياحة، والأسعار، والعنف والقتل والشوارع، والحالة فى الجامعات، وانقطاع الكهرباء، وحالة المرور، والتمدد فى سيناء، وأخطار سد النهضة فى الحبشة.. إلخ.
أصارح القارئ بأن أشياء كثيرة مما حدث فى السنوات الثلاث الأخيرة (بعد انقضاء فترة الحماسة الأولى التى أدت إلى سقوط حسنى مبارك، وبعد فترة التفاؤل القصيرة التى أعقبت ذلك)، لم تثر حماسى مثلما أثارت حماس البعض. لم أتحمس لعقد الحوارات السياسية المتتالية بين القوى السياسية، والتى لم تنتهِ، كما نعرف إلى أى نتيجة. ولم أقتنع قط بحكومة عصام شرف، واستغربت بشدة من اختيار الجنزورى لرئاسة الحكومة التى تلتها، فلم أتوقع تحسنا فى الأحوال لا على يد هذه الحكومة ولا تلك. كما أنى لم أرَ تطورا «ديمقراطيا» فى انتخابات الرئاسة، التى أسفرت عن مجئ محمد مرسى رئيسا للجمهورية، إذ كنت ولا أزال أعتقد أن المصريين يستحقون أن يكون لهم حق الاختيار بين مرشحين أفضل من ذلك: إما محمد مرسى أو أحمد شفيق. بل ولم أتحمس لما دار من مناقشات حول مواد الدستور الجديد، إذ كنت ولا أزال أعتقد أن العبرة فى الدساتير هى بصدق النية فى احترامها وتطبيقها، وأن دستور 1923 المصرى، الذى كان من أفضل الدساتير فى العالم، عصفت به أهواء الاستعمار والملك فحولته إلى حبر على ورق.. إلخ.
•••
لم يكن من المتوقع إذن، والحال كذلك، أن أتحمس لهذه الانتخابات الرئاسية التى ستجرى قريبا، أو أن أعلق آمالا كبيرة على نتيجتها. لقد كنت دائما أعتقد أن العقبة الأساسية أمام تقدم هذا الوطن عوائق خارجية أكثر منها داخلية. باختصار: العقبة الرئيسية لا هى أوجه نقص فى المصريين ولا قلة المصريين الأكفاء والوطنيين، بل هى من السياسيين المصريين (الذين يظهرون، وكأنهم هم أصحاب القرار فى هذا البلد دون أن يكون كذلك) يفتقدون حرية الإرادة، ويخضعون بشكل أو آخر لإملاءات خارجية، تصدر باللين تارة، وبالشدة تارة أخرى. كنت قد وصلت إلى هذا الاقتناع، ليس فقط من حجج منطقية، بل وباستقراء التاريخ المصرى طوال القرنين الماضيين، أى منذ أن بدأ اتصالنا بالغرب الحديث. لقد قوى لدىّ بعض الأمل فى أن تنتهى هذه الحالة، عندما نجحت ثورة 25 يناير فى إسقاط حسنى مبارك، الذى كان يجلس على قمة نظام تابع وذليل. ولكن ما حدث من تطورات بعد ذلك (وقد أشرت إلى بعضها) أخذ يطيح بهذا الأمل شيئا فشيئا حتى لم يكد يبقى منه شىء. وقد علقت بعض الأهمية على ما بدا من تقارب من مصر وروسيا منذ بضعة أسابيع، على أمل أن يؤدى هذا إلى بعض التوازن فى علاقات مصر الخارجية، ولكن ما حدث بعد ذلك كاد يطيح بهذا الأمل أيضا.
•••
ثم فتح باب الترشح لرئاسة الجمهورية، وانتهى الأمر بانحصار الترشيح فى شخصين، أحدهما قادم من المؤسسة العسكرية والآخر مدنى. لم أعلق أهمية كبيرة، بعكس كثيرين، على هذا الاختلاف، فقد استقر رأيى على أن النتيجة، فيما يتعلق بتحرر أو عدم تحرر الإرادة المصرية، لن يحددها ما إذا كان حاكم مصر عسكريا أو غير عسكرى، فقد رأينا مختلف الأصناف من بين حكام مصر العسكريين وغير العسكريين، الوطنى وغير الوطنى، الكفؤ وغير الكفؤ، الفاسد وغير الفاسد، ورأينا من حرر إرادة المصريين إلى درجة معقولة، لبعض الوقت، ومن ورط مصر أكثر فأكثر فى وحل التبعية. وإنما بدا لى أن الذى يحدد درجة التمتع بحرية الإرادة عوامل أخرى غير الأصل العسكرى أو غير العسكرى. ومن أهم هذه العوامل حالة المناخ الدولى ونوع العلاقات الدولية، وهذه فى رأيى مازالت فى غير صالح مصر.
•••
ولكن حدث منذ أيام قليلة ما أحيا فى نفسى بعض الأمل، وأشاع فيها بعض الابتهاج، رام أنه لم يقدم لى أى سبب واضح لتغيير رأيى فى أى شىء مما عبرت عنه الآن. كان هذا الذى حدث هو استماعى للحوار التليفزيونى الذى أجراه أحد المرشحين للرئاسة، وهو حمدين صباحى، مع الإعلاميين مجدى الجلاد وخيرى رمضان، واستمر لأكثر من ثلاث ساعات.
رغم أنى لا أعرف تفاصيل كثيرة عن حياة الأستاذ حمدين صباحى، فقد كان لدى، حتى قبل الاستماع إلى هذا الحوار، أسباب كثيرة للإعجاب به، رأيته لأول مرة وجها لوجه فى حفل صغير أقامته إحدى صحف المعارضة (هل كانت هى جريدة الدستور القديمة الناجحة؟) احتفالا بخروجه من السجن، حيث كان قد اعتقل فى عهد مبارك لقيادته لحملة احتجاج من الفلاحين فى كفر الشيخ ضد إجراء ظالم يتحدى أهداف الإصلاح الزراعى ويلحق ضررا بالغا بالفقراء من مستأجرى الأرض. أعجبنى بشدة موقفه حينئذ، وشجاعته، واستعداده لتحدى الحكومة لدرجة تعريض نفسه للسجن. فلما وصل إلى الحفل زاد إعجابى به، إذ رأيت رجلا مبتسما، راضيا عن نفسه، يجيد التعبير عن أفكاره، ويشعرك بأنه صادق فيما يقول.
عرفت أنه ناصرى، وأنه يتمتع بشعبية كبيرة فى بلدته الفقيرة (بلطيم) ومحافظته التى ظل مخلصا لها. فلم أتعجب من حصوله على عدد كبير من الأصوات فى انتخابات الرئاسة الأولى، تجاوزت الأصوات التى حصل عليها بعض الشخصيات الأكثر شهرة والأقرب إلى السلطة، وإن لم يصل إلى العدد الذى يؤهله لدخوله انتخابات الإعادة، التى اقتصرت على محمد مرسى وأحمد شفيق. وها هو الآن يدخل هذه الجولة الجديدة من انتخابات الرئاسة، فإذا بى أجد أداءه فى هذا الحوار التليفزيونى (يوم 9/5) أداء مبهرا مرة أخرى، مما خفف بشدة (ولو إلى حين) من حدة شعورى بالإحباط.
وجدت الرجل مرة أخرى، واثقا فى نفسه، ويبعث أيضا على الثقة بصدقه وذكائه. تفكيره منظم، وترتيب أولوياته سليم. يتكلم بلغة عربية سليمة، ويجيد الحديث بها إلى حد البلاغة أحيانا، ولا يكرر المعنى الواحد أكثر من اللازم، ولا يستعين بورقة إلا لماما، وإذا استعان بها لا يحاول إخفاءها، وهو على أى حال لم يجد غضاضة فى أن يظهر على الهواء مباشرة دون تسجيل سابق.
أعجبنى رأيه فى قانون التظاهر، وموقفه من المعتقلين السياسيين، وما يعلقه من أهمية على مشكلة البطالة، وأفكاره عن طريقة علاجها، وعن مشكلة الاعتداء على الأراضى الزراعية.. إلخ، كما أكد من جديد اهتمامه بقضية العدالة الاجتماعية وتخفيف التفاوت بين الدخول. إنه طبعا يريد أن يكسب مؤيدين، ولكن هل يمكن أن يكون المرء زعيما دون أن تكون لديه رغبة قوية فى ذلك؟
•••
ومع كل هذا فإنى لا أكتم عن القارئ أن الشعور بالإحباط أخذ يعود إلى من جديد، للأسباب نفسها التى شرحتها فيما سبق. إذ هل يكفى حوار ممتاز، أو رجل مؤهل للزعامة للقضاء على الأسباب التى ذكرتها للإحباط؟ ولكن خطر لى ما بعث بعض الراحة فى نفسى أن تاريخ الوطنية المصرية ليس تاريخ الانتصارات على العدو، بل تاريخ فعاليته ومقاومته، وأن أفضل ما فى التاريخ السياسى المصرى ليس وقائع الانتصار على إرادة العدو، بل وقائع تحديه ومعارضته، وأن أنبل الشخصيات السياسية فى التاريخ المصرى، ليست تلك التى نجحت فى الانتصار على العدو، بل تلك التى رفضت التعاون معه. وهذه هى الشخصيات التى استمرت تغذى أجيالا متتالية من الشباب الوطنى المصرى.