هل هى مصادفة أن تتزامن الموجة الرابعة من العقوبات الدولية على إيران، مع الذكرى السنوية الأولى لاندلاع تظاهرات الحركة الخضراء المُعارضة؟
ربما، مع أنه لا يحدث شىء فى هذا العالم لايكون مُخططا له سلفا، بما فى ذلك الصُدف.
لكن، حتى لو كان التزامن مصادفة، فهو سيخدم المعارضة. إذ إن قرار العقوبات، الذى يشمل حظرا شاملا على كل أنواع الأسلحة وقيودا صارمة على العمليات المالية والتجارية والمصرفية والاستثمارية، يأتى فى وقت تعانى فيه إيران من ارتفاع شاهق فى مستويات البطالة (ثلثا الشعب الإيرانى تحت سن الثلاثين)، ومعدلات تضخم خطرة، وفساد وسوء إدارة.
كل ذلك ينال من شرعية النظام التى اهتزت بعنف أصلا غداة الانتخابات الرئاسية الأخيرة، إلى درجة دفعت آية الله العظمى الراحل منتظرى إلى وصف النظام بأنه «لم يعد لا إسلاميا ولاجمهوريا».
صحيح أن شعلة الانتفاضة الخضراء همدت فى الأشهر الأخيرة إما بفعل التعب أو لأن العديد من كوادرها باتوا رهن السجون، إلا أن الشبكات الاجتماعية ــ الالكترونية التى انبثقت منها لاتزال حيّة وتركل، وربما تنتظر الآن الفرصة السانحة كى تُطل برأسها مجددا.
لا بل أكثر: يبدو أن الحراك الشعبى، وعلى رغم افتقاده إلى التخطيط والتنظيم، بدأ يتجاوز بأهدافه موسوى وكروبى لكونهما يرفضان العمل خارج أطر الجمهورية الإسلامية ويحبذان التغيير التدريجى.
الحركة الشعبية، على العكس، تنشط لمحاولة إبرام تحالفات مع تجار البازار، والعمال فى المنشآت الصناعية، ونقابات عمال النقل، وموظفى الحكومة. ويبدو أنها بدأت تحقق بعض الاختراقات والنجاحات، بدليل تزايد وتكاثر الإضرابات والاعتصامات.
كل هذه المعطيات تشى بأن حركة المعارضة الخضراء لم تفارق الحياة بعد سنة من انطلاقها؛ وأن افتقادها إلى زعيم ثورى كاريزمى كالإمام الخمينى بات قيمة مُضافة لا نقيصة سلبية بالنسبة إليها. وهذا ما عبّر عنه مؤخرا أحد النشطاء الديمقراطيين فى الحركة بقوله: «قبل ثلاثين عاما، كان الناس خرافا وكان الخمينى راعيهم. أما اليوم فليس هناك من يرعانا، لكننا لم نعد خرافا».
الصورة فى إيران تبدو هذه الأيام كالتالى: نظام ثورى محافظ يسعى، بدأ لكسر الحصار حوله من خلال تصعيد المجابهة مع الغرب مُقلدا بذلك نهج الإمام الخمينى، لكنه يفقتد إلى أهم ماكان يمتلكه هذا الاخير فى معركته التعبوية هذه: الشرعية الشعبية الكاملة وإجماع الأمة.
فهل يمكن، والحال هذه، أن تُعوّض شرعية المجابهة الخارجية عن اهتزاز الشرعية الشعبية فى الداخل؟
كلا، خاصة وأن الطرف الآخر (أى الغرب) يتجنّب تقديم الهدايا المجانية التى اعتاد أن تُقدّمها إدارة بوش إلى النظام، وهى استنفار القومية الإيرانية القوية عبر الاستعلاء والتهديدات ومحاولات الإذلال.
وبالتالى، الحصيلة الوحيدة لمثل هذه المعادلة هو استمرار تآكل شرعية الجمهورية الإسلامية نفسها، وإن بالتدريج، بسبب ترسّخ انقسام الأمة الإيرانية إلى أمّتين.
اختبارات تاريخية
هذه الحصيلة تطرح الآن السؤال الكبير فى إيران، خاصة فى صفوف المعارضة الخضراء: هل طهران مُحقة أو مخطئة فى قرارها التصدى لأمريكا والغرب؟
إذا ما كان رد طهران على هذا السؤال ينبثق من خطاب رئيسها الذى يعتقد أن بلاده ستكون قادرة على إلحاق الهزيمة بأمريكا والغرب، فالأجدى سحب السؤال سريعا، ثم التضرع إلى الله تعالى لا ردّ القضاء بل اللطف فيه.
أما إذا كان النقاش مسموحا فى هذا الموضوع، كما حدث مع كاتب هذه السطور فى واشنطن السنة الماضية حين تحاور حوله مع مسئول مقرّب من آية الله خامنئى بموضوعية وهدوء، فسيكون من المُجدى للغاية طرحه.
أمامنا تجربتان، أولاهما التجارب الاستقلالية والتحديثية لمحمد على باشا وجمال عبدالناصر، وثانيهما التجارب الراهنة للصين والهند لإعادة بناء مجد حضارتهما التاريخية.
الأولى فشلت فشلا ذريعا وأدت فى نهاية المطاف إلى احتلال مصر (مع خلفاء محمد علي) فى الهزيع الأخير من القرن التاسع عشر، بعد أن تصدّت لها القوى الأوروبية لتحطيمها، وإلى هزيمة 1967مع ناصر. والثانية تُحقق نجاحات باهرة (على الأقل حتى الآن ) فى مجال البناء الاقتصادى ــ الاجتماعى، لأنها رفضت، ولا تزال، الانجرار إلى صدام مع الغرب.
أسباب الفشل والنجاح ليست عصية على الاكتشاف: إنها ببساطة موازين القوى.
فقد شاء سوء حظ محمد على باشا أن يتزامن طموحه لتجديد حياة الدولة العثمانية بقيادة مصر العربية مع صعود الامبراطوريات الأوروبية إلى مسرح الهيمنة الشاملة على العالم. وهذا مالم يفهمه الرجل فدفع أثمانه الفادحة.
وبالمثل، تزامن طموح جمال عبدالناصر لبناء الدولة ــ الأمة العربية الكبرى، مع قرار الامبراطورية الأمريكية الحلول مكان الامبراطوريتين البريطانية والفرنسية المنحدرتين، فبرز لاتكافؤ مريع فى موازين القوى بين القاهرة وواشنطن. والحصيلة: رسالة بخط يد الرئيس الأمريكى أيزنهاور إلى وزير خارجيته دالاس تسخر من طموحات ناصر وتدعو إلى «تقليص حجمه».(Cut him to size). وهذا ما تحقق فى حرب 1967.
فى مقابل هاتين التجربتين، توفّر تجربتا الصين والهند الحاليتان نموذجا لكيفية خوض معركة صراع البقاء فى غابة السياسات الدولية بنجاح وكفاءة.
فقد تمكنت الصين من التحوّّل إلى ثانى أكبر اقتصاد فى العالم والهند إلى دولة كبرى، بالتحديد لأنهما قررتا تجنّب الصراع مع الغرب الذى لا يزال قويا، والتركيز بدلا من ذلك على الحصول منه على مزايا القوة الاقتصادية والتكنولوجية عبر مداعبة أهم غرائزه: الجشع الرأسمالى.
بالطبع، يمكن للغرب أن يُقرر فى أى حين أن الصين على وجه الخصوص قد تُشكِّل تحديا استراتيجيا خطيرا لسلطته فيتجه حينها إلى المجابهة معها لمحاولة تحطيمها. لكنه إن فعل، سيكون عليه حينذاك طبع قبلة الوداع على جبين مخلوقه العزيز العولمة، وربما معها الرأسمالية نفسها.
التمدد الزائد
ماذا تفعل لو كنت مكان إيران: تُكرر تجربة محمد على وناصر، أم تفيد من تجربة الصين والهند؟. تعمل على الإفادة من حصول إيران على حرية القرار المُستقل لدعم جهود التنمية والنهوض فيها، أم تخوض سباق تسلّح مُنهك وغير متكافئ مع الغرب؟
فى 13 نوفمبر 2008، ردّت مجموعة من 80 خبيرا اقتصاديا إيرانيا على هذين السؤالين، بتوجيه نقد لاذع إلى الرئيس أحمدى نجاد بسبب ماوصفته بـ«سياسته المُثيرة للتوتر فى السياسة الخارجية، والتى تُخيف الاستثمارات الأجنبية وتُبعدها وتُلحق أضرارا فادحة بالاقتصاد الوطنى».
وأوضح الخبراء أن العقوبات الراهنة (وهذا قبل الموجة الرابعة من العقوبات) كلّفت إيران بلايين الدولارات، وهى من جملة الأسباب الرئيسة التى جعلت 30 فى المائة من الإيرانيين يعيشون تحت خط الفقر، وضاعفت نسبة البطالة لتصل إلى نحو 25 فى المائة.
هذه المعطيات تطرح السؤال التالى: ما الفائدة إذا ما ربحت طهران الأمن (والقنبلة) وخسرت الاقتصاد؟ وهل يمكن أن تتحوّل إيران إلى قوة عظمى إقليمية فيما هى تعانى الأمرّين اقتصاديا؟ ألن يكون هذا تكريسا فاقعا لمبدأ التمدد الاستراتيجى الزائد، حيث توسيع النفوذ السياسى والإيديولوجى يتناقض مع الامكانات الاقتصادية؟
أسئلة برسم قادة إيران.