مما لاشك فيه أن الجغرافية المصرية قد حتمت على الشعب المصرى منذ آلاف السنين وحتى اليوم الحياة والاستقرار فى منطقة وادى النيل والدلتا فى مساحة لا تتجاوز على أقصى تقدير 10% من المساحة الكلية لمصـــر. وفى ظل حالة هيستيرية من التزايد السكانى المطرد بتعداد سكان تجاوز 92 مليونا، أضحت مسألة الإسكان من المشكلات الحقيقية التى تلقى بظلالها على واقع الحياة وتفرض على الحكومات المتعاقبة جهودا كبيرة وموارد ضخمة للتعامل مع ذلك الواقع ومشكلاته.
فى هذا الإطار وفى ظل غياب استراتيجية وطنية للتوسع العمرانى والتوزيع السكانى، يتضح بمزيد من البحث والتمعن فى تلك المشكلة أبعاد خطيرة تمثلت فى مجموعة من الظواهر تتمثل أولها فى تغول الاعتداء على الأراضى الزراعية بالتبوير والبناء العشوائى والمخالف بصورة لم يسبق لها مثيل، وهى الظاهرة التى حققت أعلى معدلاتها خلال السنوات الخمس الماضية، وهى على النحو الراهن والمستمر لا تهدد فقط الرقعة الزراعية المصرية المحدودة أصلا، ولكنها تقوض الأمن الغذائى الوطنى وتفشل يوما بعد يوم كل الجهود الحثيثة من قبل الدولة للحفاظ على قطاع الزراعة وتنميته وزيادة الإنتاج الزراعى للوفاء بالاحتياجات المتزايدة للمجتمع ولا سيما من السلع الاستراتيجية مثل القمح.
الظاهرة الثانية أنه خلال فترة السنوات الخمس المنقضية تغولت عصابات ومافيا الاستيلاء على أراضى الدولة والمواطنين على حد سواء، وباتت عملية مقاومة تلك العصابات عملية خطيرة ومعقدة فى ظل تحالف تلك العصابات مع عدد من الموظفين الفاسدين فى الوزارات والجهات الحكومية المختلفة، وليس أدل على خطورة الوضع من قيام إحدى الجهات الرقابية منذ أيام بالقبض على مهندسة بالإدارة الهندسية فى إحدى المحافظات قدر دخلها يوميا من الرشوة والفساد بمائة ألف جنيه، بل ووصل الأمر بتلك العصابات أخيرا إلى انتهاج أنماط الجريمة المنظمة ذات الطابع الإرهابى الدموى، والتى بلغت ذروتها الأسبوع الماضى عندما قامت احداها باغتيال أحد رجال النيابة العامة ممن تصدوا لها ولممارساتها التخريبية فى حق الوطن والمجتمع وأفراده.
•••
الظاهرة الثالثة هى ظاهرة البناء المخالف، حيث تشير إحصائيات الهيئة العامة لتعاونيات البناء والإسكان إلى أن نسبة مخالفات المبانى فى عموم مصر تمثل نسبة 90% من إجمالى المبانى القائمة والتى تقدر بعدد 4.9 مليون مبنى، وقدرت أعداد العقارات المقامة بدون تراخيص بعدد 948.317 عقار فى نهاية 2015، صدر لها 507.356 قرار إزالة ولم يتم تنفيذ أى منها. كما قدرت أعداد العقارات الآيلة للسقوط بنحو المليون عقار فى عموم الجمهورية، صدر بشأنها 132 ألف قرار إزالة لم تنفذ، وتلك الظاهرة الخطيرة هى الأخرى لطالما ارتبطت بعمليات هدم وتدمير للفيللات والقصور التاريخية على نطاق واسع بحيث إن مدينة مثل الإسكندرية تجاوزت أعداد الفيللات والقصور التى تعرضت للهدم 12 ألف وحدة خلال الخمس سنوات المنقضية بمختلف الطرق والأساليب القانونية وغير القانونية، يضاف إليها عمليات التعلية وبناء الطوابق الإضافية فوق العقارات القديمة الهشة، وظهور الآلاف من أبراج اليوم الواحد حيث تتم عمليات البناء بسرعة قبل أن تتغير الظروف القائمة.
وعند تلك النقطة يجدر بنا التوقف لالتقاط الأنفاس من هول المشهد، عشرات الآلاف من الملاك والكيانات العقارية ومقاولى البناء والإنشاءات ينتهكون القانون عن عمد، مليارات الجنيهات أنفقت من جانبهم على أبنية وعقارات أنشئت بالمخالفة للقوانين والنظم، استثمارات عقارية ضخمة غير قانونية لو تم الاستفادة بها وتوجيهها فى المسار الصحيح لكانت كفيلة بإحداث تنمية وتوسعات عمرانية حقيقية كمدن وتجمعات ومراكز سكانية جديدة تسهم فى تخفيف الازدحام الرهيب فى المدن والقرى فى الوادى وتعيد توزيع السكان بما يتفق مع متطلبات التنمية الاقتصادية والمجتمعية للبلاد، مليارات الجنيهات من ميزانية البلاد سيتعين تخصيصها وانفاقها حاليا ومستقبلا، لزيادة القدرة الاستيعابية للبنية الأساسية والمرافق فى ذات المناطق لاستيعاب متطلبات العقارات والأبراج المقامة.
•••
الظواهر الثلاث المشار إليها ما هى إلا القمة الظاهرة لجبل من الممارسات غير القانونية والفساد المغمور الكامن تحت السطح، وهى تمس مباشرة نظام المجتمع وسلامته وحياة المواطنين وحاضرهم ومستقبلهم. ولعلنا عندما نتساءل عن كيفية حدوث هذا العدد الهائل من الأعمال والممارسات التى تخالف القانون جهارا نهارا، سرا وعلانية، هل تكمن المشكلة فى صياغة القوانين وأحكامها؟ بمعنى هل هناك قوانين لم يتم إعدادها وصياغة نصوصها وبنودها وأحكامها بدرجة عالية من الإحاطة والدقة والإلمام والشمول بحيث شرعت وهى تتضمن فى رحمها عوامل ضعفها ووهنها من ثغرات قانونية تسمح لمخالفيها بالنفاذ منها وتجاوزها بثقة واطمئنان، أم أن تلك القوانين لا تتضمن أحكاما رادعة بما يكفى لإيقاف المخالف أو المتجاوز قبل أن يرتكب مخالفته مستهينا بها وبأحكامها، أو لعله من جهة أخرى يرتكب مخالفته عامدا متعمدا وهو مطمئن أن العقوبة يمكن تحملها ولا سيما لو كانت عقوبة مالية يعدها منتهك القانون زهيدة ولا تمثل له سوى تكلفة يمكن تغطيتها بسهولة من الإيراد المتحقق من ارتكابه للمخالفة.
•••
البعد التشريعى السابق الإشارة إليه للقانون يتكامل معه البعد الرقابى والتنفيذى، وهو البعد الذى تأثر كثيرا بالأحداث والتطورات السياسية والأمنية التى شهدتها البلاد طوال الخمس سنوات المنقضية، وانتهاز العديد من الأفراد والكيانات والمجموعات لتلك الفرصة السانحة لفعل ما يشاءون مستغلين تلك الفترة غير المستقرة وقيامهم بارتكاب جميع أنواع المخالفات وإهدار القانون فى توجه جشع لتحقيق أرباح طائلة دون وازع من وطنية أو ضمير أو أخلاق، أم كان هناك تراخٍ اضطرارى من الأجهزة المعنية لتطبيق القانون وتنفيذه تجنبا لإحداث مشاكل أمنية قد تودى بالاستقرار المجتمعى فى ظل ظروف سياسية واقتصادية حرجة.
ليست المشكلة فقط فى الفعل الجانح أو الإجرامى، بل المشكلة فى آثارها وتداعياتها الراهنة والمستقبلة، سيدفع المجتمع بأكمله الثمن فادحا عندما تتلاشى الأراضى الزراعية المصرية الخصبة تحت الغابات الخرسانية للمبانى، وسنضطر لاستيراد غذائنا بالعملات الصعبة من الخارج ونقع تحت رحمة وابتزاز الآخرين مخافة حدوث مجاعات لا يعرف مداها إلا الله، أو سيكون الثمن عند حدوث هزة أرضية تحيل آلاف العقارات المخالفة فى لحظات إلى أنقاض تقبع تحتها جثث ساكنيها، أو سيكون الثمن تدمير فرص التوسع العمرانى التنموى السليم فى ظل التكدس السكانى الكثيف فى الوادى، وتهاوى البنية الأساسية للكهرباء والمياه والصرف فى المدن المكتظة بالسكان واضطرار الدولة لإنفاق المليارات عليها دون تنمية اقتصادية حقيقية.
لسنا أمام معضلة بقدر ما نحن فى مواجهة مشكلة تمثلت فى غياب القانون الصارم، القانون الذى يفرض الالتزام ويحقق الانضباط المجتمعى، القانون الصارم المتضمن للأحكام الرادعة والعقوبات التى تحول دون مخالفته وانتهاكه وتوجب طاعته والالتزام به، قانون معه تعضده القوة التى تفرضه وتنفذه بحسم قاطع، إن قانونا لا يمكنه حمل الناس على احترامه بالقوة لا يعد قانونا إلا فى ظاهره فقط، قانون وهمى كأنه نار لا تحرق أو نور لا يضىء.