إيران تعترف.. أو إيران اعترفت.. عبارة صاغها الإعلام الغربى وانساق وراءها كل إعلام آخر فى العالم حتى إن أحد كبار كتابنا المخضرمين كتب فى عموده اليومى عن «المفاعل الذى تخفيه إيران فى الجبال القريبة من قم» وكلمة الاعتراف توحى بأن جريمة ما ارتكبت وتم الكشف عنها. فبماذا اعترفت إيران؟..
دعونا نستمع إلى ما قاله على أكبر صالحى مدير هيئة الطاقة الذرية الإيرانية، وهو رجل دمث الخلق وهادئ الطبع وأنا أعرفه شخصيا، حيث كان لوقت قريب يرأس قطاع العلوم والتكنولوجيا بمنظمة المؤتمر الإسلامى، لقد قال: «إننا فى حيرة من أمرنا.. إذا لم نعلن عن أنشطتنا النووية يقولون إيران أخفت برنامجا سريا» وإذا أعلنا يقولون إيران اعترفت وهى بذلك تتحدى المجتمع الدولى. وأضاف المسئول الإيرانى أن إيران أخطرت الوكالة الدولية عندما شرعت فى بناء المفاعل الجديد منذ 18 شهرا مضى (وقد أكدت الوكالة ذلك)، وأعلنت إيران عنه مؤخرا عند اكتمال البناء وذكرت أنها ستدعو مفتشى الوكالة الدولية للطاقة الذرية لمراقبة التشغيل عندما تبدأ وحدات الطرد المركزى فى العمل.
والجدير بالذكر أن التقارير الغربية الفنية وتقارير الوكالة الدولية للطاقة الذرية تجمع على أن قدرات إيران فى تخصيب اليورانيوم لم تزد على 5%، وكل ذلك معلوم لدى أجهزة صنع القرار فى الدول الغربية ولكنها ضغوط ممنهجة على إيران قبل اجتماعهم بها فى أول أكتوبر، وتعبئة للرأى العام العالمى، وتعميق لهواجس الدول الخليجية تجاه ما يسمى «بالخطر الإيرانى».. ومن المؤسف أن نشارك نحن فى مصر والمنطقة العربية فى هذه «الهوجة» وننسى خيبتنا الثقيلة عندما انضممنا إلى معاهدة منع الانتشار النووى وكبلنا أنفسنا بشروطها وقيودها بينما بقيت إسرائيل ودول أخرى كالهند، التى رفضت شروطها الظالمة، حرة طليقة.. وقد كان بإمكاننا تعليق تصديقنا على المعاهدة بتوقيع إسرائيل عليها، ولكننا لم نفعل، بينما استمرت الدول التى لم تنضم للمعاهدة فى تطوير برامجها النووية السلمية والعسكرية، بل قام بعضها بتفجيرات نووية علنية مثل الهند وباكستان.
ولا تظن أيها القارئ أن هذه الدول قد عوقبت على تمردها على النظام الدولى، فالعكس هو الذى حدث، فقد وقعت أمريكا اتفاقا مع الهند ــ بعد التفجير النووى ــ تتعهد فيه بمدها بأحدث تكنولوجيا الطاقة النووية! كما أن إسرائيل المدججة بالسلاح النووى نجحت فى تحقيق القبول الدولى الضمنى لسلاحها النووى ليس فقط من أصدقائها الغربيين، بل ومن الدول العربية التى اقتصرت سياستها تجاه هذا الأمر على المطالبة بندوات أكاديمية تبحث فى موضوع إخلاء منطقة الشرق الأوسط من الأسلحة النووية.
ومن المعروف أن نظام منع الانتشار النووى يقوم على أساس أن الدول التى لها الحق فى امتلاك الأسلحة النووية هى الدول الخمس التى أجرت تفجيرات نووية قبل عام 1968 (وهى أمريكا وروسيا وبريطانيا وفرنسا والصين)، ويحظر على سائر دول العالم تطوير وامتلاك مثل هذه الأسلحة. إلا انه يحق لها تطوير واستخدام الطاقة النووية فى الاستخدامات السلمية، وفى مقابل هذه التفرقة الصارخة بين الدول الخمس وسائر دول العالم تعهدت الدول النووية بالعمل على تخليص العالم من السلاح النووى تماما، وفى نفس الوقت تعهدت بمساعدة الدول غير النووية فى برامجها النووية السلمية، ولم تف الدول النووية الكبرى بتعهداتها وظل نظام الانتشار سيفا مسلطا على الدول الخائبة التى انضمت إليه.. وفاز بلذة العيش الجسور..
إن ما تسعى إليه إسرائيل فى المقام الأول والدول الغربية فى المقام الثانى هو منع إيران من امتلاك المعرفة النووية.. وفى ضوء إصرار إيران على التمسك بحقها فى امتلاك برنامج نووى سلمى فقد يبدو الأمر أن التصادم لا مفر منه، ولكننى اعتقد أن الموضوع سيحل فى إطار صفقة كبرى تشمل العراق وطالبان وقضايا إقليمية أخرى فى الشرق الأوسط، خاصة وأن هناك من الشواهد ما يشير إلى جدية جولة التفاوض التى بدأت يوم أول أكتوبر بالقرب من مدينة جنيف، ومن ذلك مكان التفاوض نفسه وهو قصر ريفى منعزل خارج جنيف، وبعيدا عن وهج الإعلام العالمى على عكس ما حدث مع العراق فى حرب الخليج الأولى.. عندما تفاوض بيكر مع طارق عزيز أمام الكاميرات. ثم قبول أمريكا لفتح مسار ثنائى للتفاوض مع إيران بالتوازى من مسار المفاوضات مع خمسة + واحد. وقد تم الاتفاق على استمرار التفاوض، وأشاد الجانبان بالنتائج الأولية الإيجابية، واتفق على عقد الجولة الثانية فى نهاية الشهر الحالى..
وهناك حديث عن رفع مستوى التفاوض إلى مستوى أعلى، فإذا أضيف إلى ذلك بعض التسريبات التى تشير إلى اعتزام إيران تقديم اقتراح بتشكيل كونسورتيوم لتخصيب اليورانيوم تشارك فيه إيران والدول الغربية، فإننا قد نكون إزاء حل وسط تاريخى ستتجاوز آثاره حدود العلاقات الإيرانية الغربية.