دائما ما نسمع أننا يجب أن نتعلم من التاريخ وأنه من ليس له تاريخ ليس له حاضر ولا مستقبل، وكاتب هذه السطور يعتبر نفسه قارئا نهما للتاريخ بمختلف أنواعه وليس فقط تاريخ العلوم. هناك الكثير جدا من الكتب التى تتحدث عن الحقب الزمنية المختلفة وأحداثها وأبطالها وكوارثها وملاحمها، الكثير من تلك الكتب خاصة الموجهة للعامة مكتوبة ببراعة فائقة وبطريقة مشوقة تجعلك تؤمن بأن الكاتب حكاء من الدرجة الأولى، لكن لن نجد كتبا تتحدث عن كيفية التعلم من التاريخ وكيفية استخراج الدروس من الماضى وتطبيقها فى الحاضر للوصول إلى مستقبل أفضل، وهذا ليس من السهولة بمكان لأنه من المستحيل أن تتكرر نفس العوامل بحذافيرها، وإن تكررت فهل هناك عوامل جديدة؟ وهل العوامل القديمة لها نفس التأثير؟ لاحظ أن حركة التاريخ تتأثر بالتقدم التكنولوجى من أسلحة وتكنولوجيا الاتصالات إلخ، إذا ما الحل؟ أحب أن ألفت نظر القارئ الكريم إلى أن هذا المقال سيطرح أسئلة أكثر مما سيعطى إجابات فالموضوع معقد وشائك.
سنة 2018 صدر كتاب مثير للجدل من دار النشر التابعة للجامعة العريقة MIT، الكتاب بعنوان «كيف يخطئ التاريخ؟» أو (?How History Gets Things Wrong) من تأليف أستاذ الفلسفة بجامعة ديوك أليكس روزنبرج، الكتاب يبدأ بداية صادمة من فصله الأول حيث يقول إن جميع الدروس المستفادة من التاريخ خطأ وإن طريقة سرد التاريخ على هيئة حكاية (حتى تروق للجماهير) تقودنا إلى نتائج خاطئة دائما. طبعا، بداية كهذه تجعل القارئ يتحفز خاصة لو كان يمتهن مهنة متعلقة بالتاريخ، المؤلف يبدأ بقوله إن المؤرخين قادرون فعلا على تجميع معلومات دقيقة عن الأحداث الماضية، لكن ما يفشل فيه التاريخ (ويحرص المؤلف على أن يضع كلمة «دائما») هو الربط بين الأحداث واستنتاج الدوافع، مثل: لماذا أعلن هتلر الحرب على أمريكا سنة 1941؟ ودليله على أن الاستنتاجات التاريخية ستظل دائما استنتاجات وبالتالى يصعب التعلم منها هو أن هناك كتبا مازالت تصدر حتى الآن على أحداث قديمة مثل أسباب انهيار الإمبراطورية الرومانية أو أحداث أقرب نسبيا مثل أسباب اندلاع الحرب العالمية الأولى أو هزيمة الجيش الفرنسى أمام الجيش الألمانى أربع مرات فى سبعين سنة (1870 و1914 و1940 و1944 حتى وإن كانت ألمانيا قد خسرت الحرب) بنفس الطريقة ومن نفس المكان مع أنه فى كل مرة يعكف المؤرخون العسكريون على دراسة تاريخ المعارك السابقة وأسبابها ودروسها المستفادة، يقول إن الكتب ستظل تصدر ولن نصل إلى نتيجة نهائية لأنه لا توجد وسيلة معروفة لقول إن هذا الاستنتاج صحيح أم لا، إذا فالأحداث التاريخية يمكن معرفتها وجمعها أما توصيل الأحداث ببعضها واستنتاج دوافعها فلا يمكن أن نصل إلى أكثر من الاستنتاجات وهذا بعكس النظريات العلمية، فقد تكون هناك نظريات علمية عدة لموضوع واحد لكن مع طريقة التفكير العلمية والتجارب ستموت نظريات وتبقى فقط النظريات التى تصمد أمام النظام العلمى الصارم، بقية الكتاب يستخدم المؤلف علوم النفس والأعصاب والاجتماع ليعضد فكرته.
هناك من هم أقدر منى ممن يعملون فى التخصصات المتعلقة بالتاريخ وتحليله على مناقشة ما ورد فى هذا الكتاب.
سؤالى هنا: هل ينطبق ما قاله المؤلف على تاريخ العلوم؟ لا أعتقد، أولا لأن تاريخ العلوم هو تاريخ فكرة معينة وبالتالى الدوافع الشخصية لا تنطبق عليها، ثانيا يمكننا الاستفادة من تاريخ العلوم من عدة جهات (قد ناقشناها بالتفصيل فى مقال سابق منذ عدة سنوات) مثل الاستفادة من طريقة التفكير والتعلم من الأخطاء البحثية وكيف تنشأ الحاجة لفكرة معينة إلخ، ثالثا العوامل التى تؤثر فى تقدم العلم هى الحاجة البشرية والفضول الإنسانى وهذا لن يتغير.
مازالت هناك أسئلة بدون إجابة وافية: كيف نتعلم من التاريخ؟ ولا أقصد هنا استخدام التاريخ من أجل رفع الروح المعنوية للأمم، ولكن أقصد الدروس التى تمكننا من اتخاذ قرارات مستقبلية، كيف نجد الدافع الحقيقى لحدث تاريخى معين؟ قد يكون من الممكن إيجاد دافع سياسى أو اقتصادى ولكن هل هذا يكفي؟ قد تكون هناك عوامل نفسية للأشخاص الموجودين فى هذا الحدث بحيث لو تواجدت نفس العوامل السياسية أو الاقتصادية لكن فى وجود أشخاص آخرين لتغير الحدث بالكامل، يا أهل التاريخ نسألكم الرأى والمشورة.