فى ديسمبر من العام 2017 واجه مطار هارتسفيلد ــ جاكسون أتلانتا الدولى، إغلاقا جزئيا بسبب انقطاع التيار الكهربائى. على إثر ذلك الانقطاع، ألغيت العديد من الرحلات الجوية، وانقطعت السبل بآلاف الركاب لمدة 11 ساعة تقريبا، وبعد أيام قليلة، أعلنت شركة «دلتا» للطيران خسارتها ما بين 25 و 50 مليون دولار أمريكى من الإيرادات بسبب هذا الحادث.
وفقا لتقرير صادر عن شركة أليانز، فإن الآثار المالية لانقطاع التيار الكهربائى حتى ولو لفترات قصيرة يمكن أن تكون كارثية. تظهر التحليلات المستمدة من أحداث انقطاع التيار الكهربائى فى الولايات المتحدة، أن انقطاع التيار الكهربائى لمدة 30 دقيقة فقط يؤدى إلى خسارة متوسطة قدرها 15,709 دولار أمريكى لكبار ومتوسطى العملاء الصناعيين، وما يقرب من 94 ألف دولار أمريكى للانقطاع لمدة ثمانى ساعات. وحتى فترات انقطاع التيار الكهربائى القصيرة ــ التى تحدث عدة مرات سنويا فى الولايات المتحدة ــ تضيف ما يصل إلى خسارة اقتصادية سنوية تقدر بما يتراوح بين 104 و164 مليار دولار أمريكى.
قدرت تكلفة التوقف (غير المخطط) فى مركز البيانات بفعل انقطاع الكهرباء بنحو 7900 دولار فى الدقيقة فى المتوسط. كما يمكن أن تواجه مرافق الرعاية الصحية تكاليف تصل إلى 8 آلاف دولار لكل دقيقة من التوقف. وقد تخسر شركات البيع بالتجزئة ما يصل إلى 5600 دولار فى الدقيقة الواحدة أثناء انقطاع التيار الكهربائى. ووفقا لدراسة حديثة أجرتها شركة XYZ Research، فإن انقطاع التيار الكهربائى يكلف الشركات ما يقدر بنحو 150 مليار دولار سنويا. تسلط هذه الإحصائية الضوء على الحاجة الملحة للشركات للتحوط ضد مخاطر انقطاع الطاقة من خلال الاستثمار فى حلول وضوابط متعددة.
• • •
يؤدى انقطاع التيار الكهربائى إلى توقف التشغيل، مما يؤدى إلى التوقف عن العمل وانخفاض الإنتاجية. يصبح العاملون غير قادرين على القيام بواجباتهم، تتوقف الآلات وخطوط الإنتاج وأنظمة الاتصالات.. ويؤدى ذلك كله إلى عدم الالتزام بتلبية طلبات العملاء وفشل المشروعات الاقتصادية.
من ناحية أخرى، تعتمد العديد من الشركات على أجهزة الحاسب والخوادم ومراكز البيانات لتخزين المعلومات الهامة وتشغيل التطبيقات البرمجية. يمكن أن يتسبب انقطاع التيار الكهربائى فى تلف البيانات وفشل النظام، مما قد يؤدى إلى فقدان السجلات المالية ومعلومات العملاء. قد يستغرق التعافى من مثل هذه الكوارث وقتا طويلا وتكلفة عالية. أما عن الآثار المكلفة لفقدان البيانات، فوفقا لدراسة أجراها معهد بونيمون، بلغ متوسط تكلفة اختراق البيانات فى عام 2020 نحو 86 مليون دولار. ويشمل ذلك نفقات تحقيقات المعامل الجنائية والرسوم القانونية وإخطارات العملاء. علاوة على ذلك، يمكن أن يؤدى فقدان البيانات إلى فقدان العملاء والإضرار بسمعة الشركة، مما يؤدى إلى انتكاسات مالية أكبر. كذلك يمكن أن يؤدى انقطاع التيار الكهربائى إلى صعوبة الوصول إلى البنية التحتية لتكنولوجيا المعلومات، والتواصل مع العملاء، وتلبية الطلبات، مما يؤدى إلى انخفاض الإنتاجية واضطرابات محتملة فى سلسلة التوريد. كما يمكن أن يؤدى عدم الالتزام بمعايير الامتثال لحماية قواعد البيانات والأنظمة بسبب فقدان البيانات الناتج عن انقطاع التيار الكهربائى إلى عواقب قانونية وغرامات باهظة.
مع زيادة الاعتماد على منصات التجارة الإلكترونية، تعتمد الشركات بشكل كبير على تواجدها عبر الإنترنت لتحقيق المبيعات. يمكن أن يؤدى انقطاع التيار الكهربائى إلى عدم إمكانية الوصول إلى مواقع الويب والمتاجر عبر الإنترنت، مما يمنع العملاء من إجراء عمليات شراء ويؤدى إلى خسارة كبيرة فى الإيرادات المحتملة.
قد تواجه الشركات انخفاضا كبيرا فى الإيرادات خلال فترة انقطاع التيار الكهربائى، كما أن التكاليف المرتبطة بإصلاح المعدات التالفة أو إعادة تخزين المخزون التالف نتيجة هذا الانقطاع يمكن أن تزيد من تقويض الاستقرار المالى.
• • •
لا يؤدى انقطاع التيار الكهربائى إلى تعطيل العمليات الداخلية فحسب، بل يمكن أن يؤثر أيضا سلبا على تجربة العملاء وسمعة الشركات فى السوقين المحلية والعالمية. إذا أصبح موقع الويب الخاص بالشركة أو الخدمات عبر الإنترنت أو أنظمة دعم العملاء غير متصل بالإنترنت، فقد يواجه العملاء صعوبات فى تقديم الطلبات أو طلب المساعدة أو الوصول إلى المعلومات الحيوية. ويمكن أن تؤدى مثل هذه المضايقات إلى استياء العملاء، وفقدان الثقة. أما البدائل المطلوبة للتحوط ضد هذه الانقطاعات المتكررة فى التيار الكهربائى، فترتفع تكلفتها كلما كان ذلك الانقطاع متكررا بكل تأكيد. بطبيعة الحال جميع ضوابط إدارة المخاطر ترتفع تكلفتها متى كان الحدث الضار المتوقع عالى الاحتمال وعالى الأثر وكثير التكرار.
ويمكن أن تكون نتائج انقطاع التيار الكهربائى أكثر تدميرا وأطول أثرا، إذ تتسبب فى توقف أو ارتباك الاقتصاد الوطنى بأكمله. وقد كانت جنوب أفريقيا مثالا حيا على تلك الخلاصة. فما بين عامى 2008 و2015، خسرت البلاد مليارات عدة بسبب انقطاع التيار الكهربائى المتكرر الناجم عن سوء تخطيط النظام، وقرارات السياسة الضعيفة التى يعود تاريخها إلى عام 1998. وتأخرت جنوب أفريقيا فى بناء محطات طاقة واسعة النطاق تعمل بالفحم، وواجهت فجوة هائلة بين العرض والطلب. لجأت الدولة إلى عدد من الحلول، منها تجديد محطات الفحم القديمة غير الفعالة، واستخدام توربينات الغاز ذات الدورة المفتوحة التى تعمل بالديزل، مما أدى إلى ارتفاع التكاليف بشكل صاروخى نتيجة لانخفاض كفاءة التشغيل وارتفاع تكاليف الوقود.
تشير التقديرات إلى أن تكلفة الطاقة غير المخدومة (الطلب الذى لا يلبيه العرض) فى جنوب أفريقيا، تبلغ نحو مائة ضعف التكلفة الفعلية للكهرباء. وفى رأى «واين جلوسوب» أحد خبراء الطاقة البارزين، فإن هذا مثال كلاسيكى على كون محطات توليد الطاقة الكبيرة، التى يستغرق بناؤها سنوات عدة، غير مناسبة فى عالم سريع التغير.
وتشمل الأسباب الشائعة لانقطاع التيار الكهربائى الطقس القاسى، والبنية التحتية المتهالكة، والأخطاء البشرية، وتهديدات الأمن السيبرانى. لكن يرى الخبراء أن انقطاع التيار الكهربائى يرتبط عادة بفشل نظامى التوزيع أو النقل، وليس بقدرة توليد الطاقة فى حد ذاتها. انقطاع التيار الكهربائى فى بورتوريكو فى عام 2016، كان بسبب المركزية القديمة لتوليد الطاقة فى وحدات ذات أحجام كبيرة جدا. لذلك فمن خلال توليد الطاقة الذكية، يمكن أن تصبح الأنظمة الكهربائية أنظف وأكثر كفاءة.
• • •
هذا جانب من الآثار المادية للقطع المستمر فى التيار الكهربائى، لكن الآثار البشرية والنفسية لا يمكن إحصاؤها. فالأرواح التى يمكن أن يهددها إظلام الطرق ليلا، وفقد الطاقة فى أجهزة دعم التنفس بالمستشفيات، وتوقف بعض إمدادات الحياة فى وحدات الرعاية الصحية والحضانات.. وغير ذلك من أشكال الضرر المباشر فى الأرواح. فضلا عن تراجع المزاج العام وتداعياته على الاستقرار الاجتماعى والاقتصادى والأمنى.. كل ذلك يمكن تجنبه بالتخطيط الأمثل للطاقة فى جانبى العرض والطلب، وتبنى الحلول الذكية والمصادر المتجددة فى مزيج الطاقة، والعمل على تحرير قطاع الإنتاج والتوزيع من سيطرة الدولة بدخول القطاع الخاص شريكا فاعلا فى السوق. تلك الشراكة يمكن أن تعزز من كفاءة الإنتاج والتوزيع والنقل، وتساعد على استقرار واستدامة الخدمات.
تصلح أنظمة توليد الطاقة الذكية اللامركزية حلا مناسبا لحالة جنوب أفريقيا ومصر وغيرهما من الدول التى تعتمد على المحطات الكبرى التقليدية فى توليد الكهرباء. تستخدم تلك الأنظمة اللامركزية مزيجا من مصادر الطاقة المتجددة والغاز وتكنولوجيا تخزين الطاقة. الخبر الجيد هنا هو أن تكلفة إنتاج بدائل الطاقة المتجددة، وكذلك أنظمة التخزين آخذة فى التراجع، بما يجعلها حلولا ذكية واقتصادية فى آن.
ينفتح العديد من الاقتصادات حول العالم الآن على حلول توليد الطاقة الذكية للتغلب على العجز فى أنظمة الطاقة القديمة. يساعد هذا على تحقيق وفورات كبيرة فى استهلاك الوقود، ليس فقط خلال أوقات أزمة الطاقة ولكن أيضا فى عمليات الشبكة اليومية، وتزويد المستهلكين بالكهرباء الموثوقة والفعالة من حيث التكلفة.
فى مصر، كانت جميع المؤشرات تدل على أزمة فى الوقود الأهم المطلوب لتلبية احتياج محطات توليد الكهرباء (وهو الغاز الطبيعى) بحلول عام 2023، وقد سبق أن أشرت إلى هذا فى برامج فضائية ومقالات قبل أكثر من عام من اليوم، كنت دائما ما أميز بين فائض القدرة وفائض الطاقة.. صحيح أن شح الغاز مرتبط جزئيا بزيادة الطلب عليه للتصدير لحل أزمة نقص العملة الصعبة، لكن هذا أيضا لم يكن مفاجئا. إيقاع التطوير فى مجال توليد الطاقة من مصادرها المستدامة المتنوعة اعترضته الكثير من العقبات، ومنها عدم استقلال هيئة الطاقة المتجددة عن وزارة الكهرباء، واستمرار التشوهات فى سوق تسعير الطاقة، وغياب التنافسية المؤدية بالضرورة لتحسين جودة الإنتاج، وغياب حلول الطاقة الذكية واللامركزية فى مزيج الطاقة.