فى الانتخابات الرئاسية الأخيرة فى الولايات المتحدة الأمريكية توقعت استطلاعات رأى عديدة فوز المرشحة الديمقراطية كامالا هاريس على منافسها الجمهورى الرئيس الأسبق دونالد ترامب، لتأتى النتائج معاكسة تماما بتحقيق المرشح ترامب فوزا ساحقا، وليتكرر بذلك ما حدث قبل سبعة عقود أى فى انتخابات عام 1948 الرئاسية.
وقبل ذلك بسنوات فشلت استطلاعات الرأى الفرنسية فى التنبؤ بنتائج الانتخابات الحزبية التمهيدية لاختيار المؤهلين للتنافس على الوصول إلى قصر الإليزيه بباريس.
كما أن مراكز هذه الصناعة فشلت فى التنبؤ الصحيح بنتيجة استفتاء يونيو 2017 حول خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبى.
ومؤخرا تكرر المشهد فى الانتخابات التشريعية المحلية التى جرت فى ولايتى هريانا ومهاراشترا الهنديتين فى شهرى أكتوبر ونوفمبر 2024 على التوالى.
صحيح أن الانتخابات التشريعية المحلية لا تستقطب عادة اهتمام الإعلام والمراقبين ومراكز قياس الرأى بالصورة التى تفعلها الانتخابات البرلمانية العامة، غير أنها كانت هذه المرة محط أنظار المحللين والمراقبين لسبب بسيط هو رصد سلوك الناخبين ومواقفهم من حزب «بهاراتيا جاناتا» الحاكم بقيادة رئيس الوزراء «ناريندرا مودى»، ومقارنتها بسلوكهم وتوجهاتهم فى الانتخابات العامة التى أعلنت نتائجها فى يونيو من العام الجارى، من أجل الإجابة عن سؤال «هل الحزب الحاكم وزعيمه يخسران فعلاً التأييد والدعم الشعبى؟».
والمعروف أن بهاراتيا جاناتا لم يحقق ما كان يصبو إليه فى الانتخابات العامة الأخيرة التى جرت ما بين شهرى أبريل ويونيو من عام 2024، وخسر أغلبيته البرلمانية الكاسحة (بحصوله على 240 مقعدا بانخفاض عن 303 مقاعد فاز بها فى انتخابات 2019) ما اضطره لتشكيل حكومة ائتلافية بزعامته، بينما تمكن حزب المعارضة الرئيسى ممثلاً فى «حزب المؤتمر الهندى» من تحقيق نتائج طيبة بلغت 99 مقعدا بارتفاع من 52 مقعدا)، وهو ما عكس رفض الناخبين الهنود لسياسات بهاراتيا جاناتا القومية الهندوسية، وتركيزهم على قضايا تتعلق بالبطالة والتضخم والمساواة فى الوظائف والتعيينات.
والحقيقة أن الحزب الحاكم لم يخسر عددا معتبرا من مقاعده البرلمانية فحسب، وإنما تلقى أيضا صفعة قوية فى معقله الرئيسى فى دائرة «أيوديا» بولاية «أوتار براديش» الشمالية، فى حدث قيل إنه يعكس مدى تنامى مشاعر المعارضة ضده وتدنى شعبية زعيمه مودى.
لكن إذا ما تحدثنا عن الانتخابات المحلية الأخيرة فى ولاية «هاريانا» (ولاية غير ساحلية فى شمال الهند)، نجد أن استطلاعات الرأى التى أجريت بها فى وقت مبكر تحدثت عن وجود غضب شعبى عارم فى الولاية ضد سياسات «بهاراتيا جاناتا»، وبالتالى توقعت بالإجماع فوز حزب المؤتمر المعارض، ومع ذلك صدمت النتائج الجميع فى حدث دراماتيكى قلب كل التوقعات والاستطلاعات، حيث فاز بهاراتيا جاناتا بـ48 مقعدا من أصل 90 من مقاعد الجمعية التشريعية للولاية، وهو أفضل نتيجة يحققها فى مثل هذه الانتخابات منذ عام 2000.
وتكرر الأمر فى الانتخابات التشريعية المحلية لولاية مهاراشترا (أغنى ولايات الهند) والتى تعد قاعدتها (مدينة مومباى) ميناء الهند الاقتصادى الأول والأهم على بحر العرب وعاصمة البلاد المالية، حيث توقع الخبراء والمراقبون معركة صعبة، ورجحت استطلاعات الرأى تحقيق بهاراتيا جاناتا فوزا ضئيلاً، غير أن النتائج صدمت الجميع مرة أخرى، حيث برز حزب بهاراتيا جاناتا كأكبر حزب منفرد فائز فى الانتخابات بحصوله على 132 مقعدا من أصل 288 مقعدا، وبنسبة فوز فاقت 80 بالمائة (أفضل أداء له على الإطلاق)، موجها بذلك صفعة قوية لمنافسه الرئيسى «حزب المؤتمر» (لم يحصل إلا على 41 مقعدا) وبقية الأحزاب والتحالفات.
فكانت هذه هى المرة الأولى التى لم يحصل فيها أى حزب معارض على نسبة 10 بالمائة من المقاعد المطلوبة للمطالبة بصفة زعيم المعارضة فى الجمعية التشريعية أو البرلمان المحلى لولاية مهاراشترا.
أوجه التشابه السابقة بين ما حدث فى انتخابات الولايتين الهنديتين، وضعت المراقبين وخبراء استطلاعات الرأى فى حيرة، وجعلهم يثيرون العديد من التساؤلات والتبريرات غير المقنعة، خصوصا وأن الولايتين شهدتا إقبالاً قياسيا تاريخيا من الناخبين على مراكز الاقتراع، ولاسيما فى ولاية مهاراشترا التى شهدت أعلى نسبة اقتراع منذ ثلاثة عقود.
ونخالة القول إن مراكز استطلاعات الرأى ومنظمات قياس الرأى، ولاسيما تلك المختصة بالانتخابات السياسية، مضللة فى الكثير من الأحيان، ولا تعكس الواقع الحقيقى، وإنما تعكس خيالات وأمنيات أولئك الذين يقفون وراءها ويستخدمونها من أجل إشاعة أجواء التشاؤم داخل المعسكر السياسى الذى يحاربونه ويناهضونه.
وللمؤرخ الأسكتلندى الساخر توماس كارليل مقولة تلخص هذه الخلاصة هى «قياس الرأى العام هو أكبر كذبة فى تاريخ العالم».
عبدالله المدنى
جريدة البيان الإماراتية