(آسانج).. قوة المعرفة وميقاتها - صبرى حافظ - بوابة الشروق
الثلاثاء 25 فبراير 2025 10:29 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تتوقع نجاح اتفاق الهدنة في غزة؟

(آسانج).. قوة المعرفة وميقاتها

نشر فى : الجمعة 14 يناير 2011 - 10:01 ص | آخر تحديث : الجمعة 14 يناير 2011 - 10:01 ص
لاشك فى أن جوليان آسانج، وموقعه الشهير «ويكيليكس» أى «تسريبات سريعة»، الذى أثار اهتمام الرأى العام المحلى والدولى على السواء، يستحق منا أن نتريث قليلا عنده من الناحية الثقافية والفكرية، وليس فقط من الناحية الصحفية والخبطات الإعلامية.

لأن ما كشف عنه آسانج كما برهن الأستاذ الكبير محمد حسنين هيكل فى حديثه المهم «هوامش على حوارات لندن» فى (الجزيرة). ليس مهما فى تفاصيله، أو فى الجرى وراء ما به من معلومات مزلزلة، فليس فيه من ذلك الكثير، بقدر ما هو مهم فى دلالاته الواسعة والعميقة على بعض التغيرات الجوهرية فى العالم، والتى نحن عادة فى غفلة عنها.

فلكى نعرف حقيقة ما قام به آسانج، وسر غضب المؤسسة الغربية عليه، علينا تأمل الدلالات العميقة أو المضمرة لما جرى، والتعرف على آسانج وموقعه من خلال منظور فكرى وثقافى عريض يسعى إلى موضعه تلك الظاهرة فى إطارها الأوسع.

وتمحيص طبيعة التغيرات التى جلبها بموقعه هذا إلى ساحة الجدل حول قضايا القوة والمعرفة والهيمنة فى عالم متغير.

وأود هنا أن أضع تلك الظاهرة فى إطارين: أولهما فكرى فلسفى، وثانيهما جيوسياسى يتقصى تأثيراتها على موازين القوى السياسية منها والمعرفية. ولكن قبل الحديث عن أى من الإطارين أود بداءة التوقف عند اسم الموقع ودلالاته. لأن الدراسات الفيلولوجية تطالبنا بمعرفة معنى المفردة وتمحيص تاريخها كى نتعرف على دلالاتها الحقيقية والمضمرة.

فماذا تعنى ويكيليكس Wikileaks؟ تتكون الكلمة من «سابقة» من الاصطلاح اللغوى «السوابق واللواحق» فى المفردة اللغوية، هى ويكى Wiki أضيفت إلى كلمة معروفة فى اللغة الإنجليزية Leaks وتعنى تسريبات.

تستخدم عادة لوصف تسرب الماء من صنبور فاسد أو وصلة مياه غير محكمة. وويكى، التى تستخدم فى الانجليزية كسابقة وليس كمفردة مستقلة، هى كلمة مأخوذة من لغة جزر الهاواى وتعنى السرعة، وهى كلمة حديثة لم تستخدم فى الانجليزية قبل عام 1994 وكان أول من استخدمها هو المبرمج الأمريكى وارد كاننجهام مخترع برنامج ويكيويكيويب Wikiwikiweb، الذى يعنى الشبكة فائقة السرعة التى تمكن المستخدم، أو فى الواقع أكثر من مستخدم بشكل جمعى وتعاونى متزامن، وفى أكثر من مكان، من خلق مواقع على الشبكة الإلكترونية بسرعة فائقة، حيث تعرض الشبكة على الفور ما يقدم لها، بينما تتيح فى الوقت نفسه لأكثر من مستخدم الفرصة لتحريره آنيا أو فيما بعد، بالصورة التى تشكل نقلة نوعية فى الكتابة عموما، والكتابة على الإنترنت خصوصا، وهى الكتابة الجمعية المتزامنة متعددة المواقع والمصادر، والتى يمكن على الفور تحريرها وتغييرها كلما أراد أى مشارك تصحيح أى معلومة يضعها آخر.

وهى التقنية التى كان أول من استخدمها على نطاق واسع موقع دائرة المعارف الشهيرة على الإنترنت «ويكيبيديا» عام 2001 التى يمكن ترجمتها بدائرة المعارف الجمعية السريعة، التى تتيح لأى مستخدم أن يضيف أى مادة إليها، أو أن يحرر أو يعدل أى مادة موجودة على الموقع بالفعل. بالصورة التى أجهزت على أرستوقراطية المعرفة من جهة، وخلقت عواقبها الخطيرة من حيث مدى موضوعية ما ينشر بها، ومدى الثقة به من جهة أخرى.


ثم جاء موقع «تسريبات سريعة» عام 2005 ليغير هو الآخر وبسرعة متنامية طبيعة الخبر الصحفى أو بالأحرى الخبطة أو الضربة الصحفية Scoop.

حيث قدمت فى عمرها القصير الذى لا يتجاوز خمس سنوات، ضربات صحفية تفوق فى عددها ما قدمته «النيويورك تايمز» فى مسيرتها الطويلة، التى بلغت مائة وخمسين عاما. والواقع أن الموقع الذى بدأ بتقنية «ويكيويب»، وتلقى فى عامه الأول أكثر من مليون ومائتى ألف وثيقة.

سرعان ما أخذ فى التنامى والازدهار، وأصبحت له إدارته التحريرية المستقلة. وقد حقق خبطات صحفية صخمة فى أعوامه الأولى، وخاصة فيما يتعلق بما يدور فى أفريقيا والصين أدت إلى فوزه عام 2008 بجائزة مجلة «الإيكونيمست» و«إندكس للرقابة» كأهم مؤسسة صحفية جديدة، وعام 2009 بجائزة «أمنيستى أنترناشونال» لكشفه عن الجرائم، التى ارتكبت فى حق الإنسان فى كينيا.

وبسرعة التف الكثيرون من المتعطشين لمنبر حر حول «تسريبات سريعة» فقد كان ثمة ضيق يتنامى بين الأوساط الصحفية الغربية من تآكل حرية الصحافة، وتقلص حرية تبادل المعلومات وتدفقها الحر، وخاصة بعد ظهور ما يسمى بالصحفى المزروع Embedded والذى لا ينشر إلا ما يصرح له العسكر بنشره، أثناء حرب الخليج الأولى، ثم بعد ذلك بشكل متنامٍ فاضح فى غزو أفغانستان والعراق. وقد بلغ الأمر فى غزو العراق حد ضرب الجيش الأمريكى مقار الوحدات الإعلامية، التى لا يسيطر على ما تنشره من تقارير.

وهو الأمر الذى أثار جدلا ثقافيا وفكريا واسعا فى أغلب البلدان الأوروبية، وبدأ الحديث فى ألمانيا وفرنسا عن فقدان المؤسسة الصحفية لنزاهتها وتحولها إلى حليلة للمؤسسة العسكرية، ومؤسسة السلطة، بدلا من أن تكون عينا عليها ترصد تجاوزاتها، وتسعى لتصحيح أخطائها. وفى كل من بريطانيا وأمريكا، بلغ الجدل الساحة المسرحية. فقد شاهدت أكثر من مسرحية إنجليزية تنعى حرية الصحافة، وتؤكد أن الحقيقة هى الضحية الأولى للحرب. كما شاهدت فى لندن مسرحية أمريكية تنتقد بحدة نظام الصحفى المزروع ذاك، وما ينطوى عليه من رقابة على حرية الصحافة، ونشر للكذب والتضليل. ثم تتابعت التحقيقات ولجان تقصى الحقائق البرلمانية، التى أكدت كلها أن الحقيقة كانت الضحية الأولى للحرب.

وإذا كنت أطلت قليلا فى شرح معنى اسم الموقع وتاريخه، خاصة السابقة ويكى، فإن السبب فى ذلك أن معنى تلك الكلمة يكشف لنا عن نوعية النقلة الجذرية فى تبادل المعرفة وبلورتها. لأن معنى الكلمة ذاته يناظر حقيقة التغير البنيوى فى عملية تدفق المعرفة، وتبادل المعلومات. فقد أصبح هذا التبادل جمعيا ومتزامنا ومتغايرا فى وقت واحد.

وأخذت تقنية الويكى تتيح لأناس عاديين لا يجمعهم غير الضيق بالممارسات غير الشرعية، وبانتهاك القانون وحقوق الإنسان، أن يتحولوا إلى مصدر موازٍ للمعرفة لا يمكن للمؤسسة، عسكرية كانت أو سياسية، أن تسيطر عليه. بصورة يتحول معها الرأى العام المضاد إلى مؤسسة موازية أو مناهضة، تطرح بسرعة ردودها.

وهى فى الواقع نقلة معرفية كيفية تلغى كلا من البعدين الزمانى والمكانى للمعرفة، لم نتعرف بعد على كل ما سيترتب عليها من عواقب.

وهناك مفكر فرنسى معاصر هو بول فيرليو Paul Virilio خصص قسما كبيرا من كتاباته الفلسفية لدراسة عواقب تنامى السرعة غير المسبوق (سرعة الحركة، وسرعة انتقال المعلومات، وسرعة استخدامها تكنولوجيا.. إلخ) فى العصر الحديث ودورها فى تقليص الزمن وتغيير العلاقة بين الزمان والمكان.

وأحد أهم تأثيرات ما أحدثته عملية المواجهة بين موقع «التسريبات السريعة» والولايات المتحدة الأمريكية خاصة يتعلق بهذا المتغير الذى درسة فيرليو، السرعة وتقليص الزمن ودلالة ذلك على العلاقات الجيوسياسية. فقد كان الموقع ينال أهم الجوائز الغربية حينما كان يفضح الممارسات الأفريقية أو الصينية، لكنه ما إن بدأ فى فضح الممارسات الأمريكية حتى انهالت عليه المشاكل. لكن علينا أن نستكمل التعرف على الإطار الفلسفى الذى أريد أن أموضع فيه الظاهرة أولا قبل الدخول فى القضايا الجيوسياسية، وما جرته من مواجهة بين قوة أوروبا الناعمة فى مواجهة قوة أمريكا الخشنة.

يعرف المتابعون للمشهد الفكرى الغربى أن أهم هاماته فى القرن العشرين من سارتر وهوسرل حتى هايدجر وديلوز وفوكو بل حتى كبار رجعيى القرن مثل ليو ستراوس (مفكر المحافظين الجدد)، قد خرجت من عباءة الفيلسوف الألمانى العظيم فريدريك نيتشه، وزعزعته للكثير من الرواسى الفكرية السابقة، وإدخال النسبية فى جينيولوجيا العلم والأفكار والأخلاق والقيم. ومن أبرز هذه الإنجازات أعمال المفكر الفرنسى ميشيل فوكو، التى استطاعت أن تثبت أن المعرفة هى القوة الحقيقية، وأنه لايمكن ترسيخ أى سلطة دون معرفة، أو بالأحرى دون السيطرة على آليات المعرفة وكيف تتخلل أدق تفاصيل الخطاب السائد. فقد أثبت فوكو فى دراساته اللامعة عن تاريخ المؤسسة الطبية، والعقابية، والجنسية، عن أن (أركيولوجيا المعرفة) وآلياتها هى نفسها التى تتخلق منها حركية القوة وآليات التسلط.

وأن السلطة، التى توفرها المعرفة تتجسد فى الخطاب، الذى يسيطر عليه من يستحوذ على المعرفة ويتحكم فيها.

ولأضرب مثالا واحدا من دراسته للمؤسسة العقابية: فمعرفة السجين بأن السجن شديد الإحكام، وبأن هناك من يراقبه من برج المراقبة هى التى تمارس عليه ومن الداخل السلطة، التى تمنعه من التفكير فى الهرب. بصورة تتيح أحيانا للمؤسسة أن تترك برج المراقبة خاليا، دون أن يهرب أحد. ما دام السجناء لا يعرفون أن البرج خالٍ.


والواقع أن أهم استراتيجيات استخدام المعرفة كقوة هى مسألة التوقيت: متى تعرف وكيف توظف المعرفة قبل أن يوظفها غيرك. فلو عرف السجناء أن البرج خالٍ لانهار السجن؟ لكن سيطرة خطاب المؤسسة يجعل من المستحيل عليهم تصور خلو البرج.

وهذا هو سر انزعاج المؤسسة الأمريكية من «تسريبات سريعة» التى عرتها وكشفت عن خلو برجها من الحراس، وهو الأمر الذى سنكشف عنه عند تناول البعد الجيوسياسى فى الأسبوع المقبل.
صبرى حافظ ناقد أدبي مصري مرموق، وأستاذ الأدب الحديث والمقارن بجامعة لندن. درّس في كبريات الجامعات الغربية. وله العديد من الكتب والأبحاث بالعربية والانجليزية، فاز أحدث كتبه بالانجليزية (السعي لصياغة الهويات) بجائزة (اختيار) الأمريكية لأهم الدراسات الأكاديمية لعام 2009.
التعليقات