ثلاثة أسئلة محورية طرحتها لجنة التحقيق البريطانية على رئيس الحكومة السابق طونى بلير... هذه الأسئلة هى:
أولا: هل الحرب على العراق كانت مبررة قانونيا؟
ثانيا: هل المصالح العليا لبريطانيا كانت تستوجب المشاركة فى الحرب؟
ثالثا: هل المبررات التى أعلنها الرئيس بلير لتبرير المشاركة كانت صادقة؟
خسرت بريطانيا فى الحرب على العراق 179 عسكريا فقط. ولكنها خسرت فوق ذلك صدقيتها العالمية. فكانت لجنة التحقيق الخماسية محاولة لاستعادة هذه الصدقية أولا أمام الرأى العام البريطانى ثم أمام الرأى العام الدولى.
الأسئلة التى طرحها أعضاء اللجنة على الرئيس بلير صيغت فى معظمها بشكل اتهامى. لذلك وجد رئيس الحكومة السابق نفسه فى حالة دفاع عن النفس من خلال محاولاته الإجابة عن الأسئلة المركزية الثلاثة، والعشرات من الأسئلة الأخرى الملحقة بها.
لقد جرّ الرئيس طونى بلير بريطانيا إلى الحرب على الرغم من معارضة الأمم المتحدة، وعلى الرغم من معارضة واسعة داخل الحكومة البريطانية ذاتها، وكذلك داخل مجلس العموم. فقرار مجلس الأمن الدولى 1441 لم يعطِ أبدا الصلاحية للولايات المتحدة، وتاليا لبريطانيا للقيام بعمل عسكرى ضد العراق على خلفية اتهامه بامتلاك أسلحة دمار شامل، وهى التهمة التى ثبت فيما بعد أنها لم تكن فقط غير صحيحة، ولكن ثبت أنها كانت ملفقة عمدا.
وبانتظار صدور بيان لجنة التحقيق فى وقت لاحق من هذا العام، فإن المبادرة البريطانية بالتحقيق مع رئيس حكومة هو من أهم رؤساء الحكومات البريطانية بعد الحرب العالمية الثانية (10 سنوات فى الرئاسة بعد قيادة حزب العمال إلى الفوز بثلاث دورات انتخابية عامة)، تشكل قاعدة لطرح علامة استفهام كبيرة حول ما إذا كانت الولايات المتحدة سوف تبادر هى الأخرى إلى التحقيق مع الرئيس السابق جورج بوش حول أسباب (ونتائج) الحرب التى شنّها على العراق. فقد دفع الأمريكيون أكثر من أربعة آلاف قتيل وأكثر من 10.5 مليار دولار، إضافة إلى انهيار تام فى الصدقية أمام العالم كله. وفى التاريخ القريب جدا ما يشجع على ذلك. فقد سبق أن خضع الرئيس الأسبق بيل كلينتون إلى التحقيق فى قضية اتهامه بإقامة علاقة جنسية مع موظفة فى البيت الأبيض.
صحيح أن التهمة كانت مسيئة للرجل الرئيس ورب الأسرة، إلا أن الأسوأ من خطيئة ممارسة الجنس مع موظفة، كانت خطيئة الكذب على الرأى العام الأمريكى بإنكار الرئيس كلينتون أن يكون قد أقام معها أى علاقة جنسية. ولما ثبت عكس ذلك جرى التحقيق معه بتهمة لا تغتفر فى أى دولة ديمقراطية، وهى الكذب على الرأى العام.
أما الرئيس بوش فانه برّر مرارا أمام الرأى العام الأمريكى الحرب على العراق على أساس اتهام النظام العراقى السابق بأنه يمتلك أسلحة دمار شامل، وأنه على علاقة مع تنظيم القاعدة الذى ارتكب جريمة نيويورك وواشنطن فى سبتمبر 2001، وأن السلاح الذى يملكه قد يصل إلى القاعدة مما يشكل خطرا على أمن الولايات المتحدة وأمن حلفائها. ولذلك كان القرار بالحرب لقطع الطريق أمام هذه المخاطر.. «والذهاب إلى المجرمين قبل أن يصلوا إلينا»، على حدّ قول الرئيس بوش.
غير أن الرأى العام الأمريكى اكتشف من مصادر أمريكية رسمية، سياسية ومخابراتية، أن هذه الاتهامات كانت باطلة من حيث الشكل والأساس، وأنها صُنعت من أجل تبرير الحرب ليس إلا. بل تبين أكثر من ذلك، وهو أن قرار الحرب على العراق كان قد أُعدّ حتى قبل وقوع جريمة سبتمبر 2001.
من هنا يأتى السؤال: هل يعقل أن يخضع الرئيس كلينتون للتحقيق لأنه كذب بشأن علاقته الجنسية بموظفة فى البيت الأبيض، ولا يخضع الرئيس بوش للتحقيق لأنه كذب على الأمريكيين وعلى شعوب العالم جميعها بشأن مسئوليته فى اتخاذ قرار الحرب على العراق التى أودت بحياة مليون عراقى حتى الآن؟
لقد شكلت لجنة التحقيق البريطانية سابقة سياسية تحتذى. ذلك أن من حسنات النظام الديمقراطى أنه يصحح ذاته بذاته. وأنه نظام مفتوح على قاعدتى المساءلة والمحاسبة بحيث لا يتمتع أى مسئول بحصانة تحميه من انتهاك القانون العام، وفى مقدمة ذلك حق الرأى العام فى أن لا يُكذب عليه.
ربما يكون من قبيل الترف السياسى دعوة دول عربية بصورة خاصة ــ ودول من العالم الثالث بصورة عامة ــ إلى الاقتداء بالسابقة البريطانية. فبعض هذه الدول تشارك فى حروب أو تخوض حروبا لحسابها. وبصرف النظر عن محصلات تلك الحروب، فإن أيا من القادة أصحاب القرار لا يُسأل عن مبررات قراره وعن أخلاقياته، أو يحاسب على نتائجه.
وعلى سبيل المثال، وفى ضوء أعمال لجنة التحقيق البريطانية حول الحرب على العراق، فإن الرئيس العراقى السابق صدام حسين لم يتعرّض للمساءلة حول الحرب مع إيران فى الثمانينات من القرن الماضى والتى أدت إلى إلحاق دمار رهيب بالبلدين. ومن الواضح أن عدم مساءلته أو التحقيق معه كما يجرى الآن فى لندن مع الرئيس طونى بلير شجعه فيما بعد على اجتياح الكويت ليسجل سابقة مدمرة فى التاريخ الحديث للعلاقات العربية ــ العربية. ومن خلال الحربين على إيران وعلى الكويت جرت محاولات لتسويقه فى الداخل العراقى بطلا وطنيا بدلا من التحقيق معه ومحاسبته.
وقبل ذلك لم يوجَّه سؤال إلى الرئيس جمال عبدالناصر عن أسباب إرسال قواته إلى اليمن، كذلك لم يسأل أحد الرئيس أنور السادات لماذا أوقف حرب 1973 على الرغم من معارضة رئاسة الأركان المصرية، وذهب إلى المفاوضات المباشرة مع إسرائيل على الكيلو 101 القاهرة ــ السويس؟ أو لماذا تخلى عن تحالفه الاستراتيجى مع الاتحاد السوفيتى السابق وطرد الخبراء العسكريين السوفيت مقدما هبة مجانية للولايات المتحدة حتى قبل أن تبدأ المفاوضات السياسية مع وزير الخارجية الأمريكية الأسبق الدكتور هنرى كيسنجر؟
وعلى سبيل المثال كذلك، لم يتعرض الرئيس الفلسطينى ياسر عرفات إلى المساءلة حول أحداث سبتمبر الأسود 1970 فى الأردن، أو حول التورط فى الحرب الأهلية فى لبنان طوال الفترة من 1975 حتى 1982؟
والأمثلة كثيرة وشائكة؛ فقد تكون هناك أسباب موجبة أملت اتخاذ هذه القرارات المصيرية التى أعادت صياغة مستقبل العالم العربى وأعادت تركيب علاقاته مع دول العالم، ولكن لم يجرِ أى تحقيق حول هذه الأسباب والدوافع، وبالتالى لم توفر عبرا ودروسا للمراحل التالية.. فقد جرى التعامل مع تلك القرارات كأمر واقع. علما بأن التغطية على الخطأ خطأ، فهو يقفل الآفاق أمام إمكانات التعلم من التجارب لتجنب الوقوع فى الخطأ مرة أخرى. وعدم الاعتراف بالخطأ خطأ أيضا لأنه يؤدى إلى الإمعان فى الخطأ، مما يؤدى إلى استمرار الدوران فى حلقة مفرغة من الأخطاء المتلاحقة.
اليوم تحاول بريطانيا من خلال لجنة التحقيق أن تبحث عن خطأ الرئيس بلير ليس للتشهير به، إنما لتوظيف اكتشاف الخطأ فى عملية سياسية مستقبلية تستهدف عدم الوقوع فى هذا الخطأ مرة ثانية. بمعنى محاولة استخلاص الدروس والعبر من الحرب على العراق لتوظيف ذلك فى خدمة عملية اتخاذ القرار السياسى البريطانى فى المراحل التالية.
وحدهم الأنبياء لا يخطئون عندما يتعاملون مع الوحى المنزل عليهم. ولكن لا السياسيون أنبياء، ولا قراراتهم وحى يوحى!