بشرتنا وسائل الإعلام منذ أيام قليلة بأن فتنة طائفية جديدة قد تم وأدها فى إحدى قرى مركز العامرية بالإسكندرية هذه المرة، وأنه قد تمت تسوية الخلافات عن طريق صلح عرفى تم التوصل إليه بفضل وساطة رجال الدين، وتحت رعاية المحافظ، وبحضور جميع الأطراف من الأمن والشيوخ والقساوسة وعائلات البلد. خبر سعيد فى حد ذاته أن يتدخل العقلاء فى البلد لتهدئة النفوس والمساعدة فى عودة الهدوء، لولا أن اتفاق الصلح يتضمن شرطا صادما ومخيفا، وهو رحيل العائلات المسيحية التى ينتمى إليها من كانوا السبب فى المشكلة الأصلية، وأن تباع ممتلكاتهم ويهاجروا من البلد فورا. وهذه ليست المرة الأولى التى يقضى فيها مجلس عرفى بتهجير عائلة مسيحية، إذ تكرر ذات الأمر قبل ستة أسابيع فى قرية «بهيج» القريبة من مدينة أسيوط، وعلى ما يبدو أنه أمر تكرر فى حالات مماثلة من قبل، حتى صار عرفا مقبولا وأمرا طبيعيا. وهنا وجه الكارثة التى لا يبدو أن المجتمع والمسئولين يدركون حجمها ودلالتها، بغض النظر عن الوقائع والتفاصيل التى كانت سببا فى الفتنة أصلا.
أن يكون أحد بنود الصلح العرفى الذى يتم الاحتفال به باعتباره انتصارا للعقل والحكمة شرط هجرة أو رحيل أو طرد عائلة لأن أحد أبنائها أو أبناء جيرانها قد ارتكب جريمة ما ــ مهما بلغت فداحتها ــ فهذا أمر كارثة ولا يمكن السكوت غنها، ولكن أن يتم تقديم هذا الصلح كما لو كان طبيعيا ومقبولا ومتسقا مع العدالة والمنطق، وأن يرحب به المسئولون والإعلام والأمن والمجلس التشريعى، فهنا نكون أمام انهيار حقيقى لدولة القانون ولفكرة العدالة ولأبسط قواعدها. نحن هنا أمام ما يسمى بالعقوبة الجماعية، حيث يحكم على عائلة بعقوبة تشمل كل أفرادها بسبب جريمة ارتكبها أحد أفرادها، ونحن أمام عقوبة لا وجود لها فى القانون المصرى، ونحن أمام تغليب لقواعد عرفية على كل البناء الراسخ للنيابة والتحقيق والمحاكم والسجون والشرطة، ونحن أخيرا أمام اعتراف خطير بأن الدولة الرسمية لم يعد لها وجود.
فى القانون المصرى، وفى كل قوانين الدول منذ عدة قرون مبدأ يسمى «شخصية الجريمة والعقوبة» والذى تضمنته كل الدساتير المصرية منذ مطلع القرن الماضى. معنى شخصية الجريمة والعقوبة أن الجريمة لا تنسب إلا إلى من ارتكبها، وأن العقوبة لا تقع إلا عليه وحده، وألا تؤخذ قرية بجرم أحد سكانها، ولا طائفة بما يفعله أحد أعضائها، ولا أسرة أو عائلة بما يقع من أبنائها. ويصاحب ذلك مبدأ آخر، وهو أنه «لا عقوبة إلا بنص» ومعناه ألا يتم توقيع عقوبة على أى شخص إلا إذا كان منصوصا عليها فى قانون العقوبات أو فى أى قانون آخر، وبالتالى لا يجوز اختراع عقوبات جديدة من نوعية الطرد من المسكن والتهجير من البلد. هذه ليست مجرد مبادئ قانونية عامة أو أفكار فلسفية، ولكنها أساس القانون الحديث فى العالم وفى مصر، وأركان لا يمكن إهمالها وإلا عدنا للقرون الوسطى.
من المسئول عما حدث فى العامرية وما حدث فى بهيج؟ فى تقديرى أن اللوم فى الحالتين لا يقع فقط على المحافظ ولا على جهاز الشرطة، فالوضع الأمنى منفلت، والإمكانات منعدمة، والذين حضروا هذه الأحداث عبروا عن امتنانهم لحرص المسئولين وكبار البلد على بذل كل الجهد لوقف العنف والتوصل لحل للأزمة قبل ان تستفحل. واللوم لا يقع على من توسطوا من الحكماء ورجال الدين فى التوصل لصلح عرفى لأن غياب القانون الرسمى جعل الناس تؤمن حقيقة أن العرف واجب التطبيق وأن مجالس الصلح هى الأصل وليس الاستثناء وبديل عن القانون الرسمى وأن ما يؤدى للتهدئة يستحق الاحترام مهما كانت شروط التهدئة مجحفة. اللوم يقع علينا جميعا فى كل مرة نقبل فيها أن تتراجع قيمة العدالة، وأن يتم الاستهزاء بمؤسسات وأركان دولة القانون، وفى كل مرة نعتبر الصلح العرفى الذى يساوى بين الضحية والجانى انتصارا عظيما ووسيلة طبيعية لفض المنازعات. كل هذه مقدمات لابد أن تؤدى فى النهاية إلى تراجع قيمة القانون وقيمة العدالة ومكانتهما فى ضمير الناس فلا يعود يصدمهم أن يتم طرد أسرة من مسكنها ومن بلدها وأن يتم حرق ممتلكاتها أو بيعها جبرا لأن شابا من أبنائها قد ارتكب جريمة، حتى ولو لم القبض عليه والتحقيق معه.
هذه فترة سوداء فى مسيرة القانون الحديث فى مصر، وفى مفترق طرق بين انتصار القانون الرسمى ومؤسساته وبين ترك العرف والتمييز والطائفية ينتصرون علينا وعلى القيم التى تأسست عليها دولة مصر الحديثة. هذه مسألة لا تتعلق بالحقوق الشخصية فحسب، ولكن ثقوا أن لا اقتصاد ستقوم له قائمة، ولا مجتمع سيتقدم، ولا أمن سيستتب، ولا ثقافة ولا فن ولا تعليم، لو لم ندافع عن فكرة القانون ودولته فورا. يجب أن يتم التحقيق مع مرتكبى الجرائم الأصلية فى أسيوط وفى الاسكندرية وفى كل موقع آخر فى مصر وأن يأخذوا نصيبهم مما يقضى به قانون العقوبات، ولكن فى الوقت نفسه يجب أن تعود أسرهم إلى بلادها ومنازلها فورا، وأن يكون ذلك بإقناع سكان البلد ــ المسلمون فيها قبل المسيحيين ــ بأن مصلحتهم ومستقبلهم يتوقف على قبول تطبيق القانون، والاعتراف بالنيابات والمحاكم وسيلة وحيدة لحسم المنازعات فى المجتمع، أو أن يكون ذلك بالقوة الجبرية إذا لزم الأمر. والأهم مما يحدث فى بهيج أو فى العامرية هو أن ندرك جميعا أن مستقبل دولة القانون فى مصر صار على المحك، فإما الدفاع عنها وإما فمرحبا بقانون الغابة وبالصلح العرفى وبالتهجير الجماعى وبالحياة وفقا لقيم ومعايير العصور الوسطى.