لم يكن مفاجئًا أن بدأ الرئيس الأمريكى ولايته الثانية بشن حرب تجارية على أكبر ثلاثة شركاء تجاريين للولايات المتحدة؛ فهو الذى صرح فى أكتوبر الماضى قائلاً «أجمل كلمة فى القاموس هى «الرسوم الجمركية». إنها كلمتى المفضلة». فبمجرد إعلان الرئيس ترامب مؤخرًا عن فرض رسوم جمركية بنسبة 25% على جميع الواردات المكسيكية ومعظم السلع الكندية، ورسوم جمركية إضافية بنسبة 10% على السلع الصينية؛ ردت هذه الدول من جانبها بالإعلان عن رسوم جمركية مماثلة على المنتجات الأمريكية؛ مما يهدد بإشعال فتيل حرب تجارية عالمية بين أكبر اقتصادات العالم، فى وقت لا تزال فيه الكثير من الدول النامية تسعى للتعافى من آثار جائحة كورونا، والحرب الروسية الأوكرانية، وغيرها من الأزمات والصراعات الدائرة حول العالم. فى هذا المقال، سنحاول الإجابة على ثلاث أسئلة: ما هى الحرب التجارية؟ كيف تعمل السياسات الحمائية؟ وكيف ستؤثر الحرب التجارية الحالية علينا كدول نامية لا ناقة لنا فيها ولا جمل؟
بشكل عام، يطلق مصطلح «الحرب التجارية» على الصراع الاقتصادى الذى ينشأ عندما تفرض دولة ما رسومًا جمركية أو قيودًا تجارية على واردات دولة أخرى، ولأنه غالبًا ما ترد الدولة المستهدفة بفرض إجراءات مماثلة؛ فإن ذلك قد يسبب أضرارًا مباشرة للقطاعات والصناعات المستهدفة وتأثيرات غير مباشرة على القطاعات الأخرى للاقتصادات المعنية. وقد تتخطى آثار الحروب التجارية أطرافها لتؤثر على دول أخرى حول العالم، ما يؤدى إلى اضطراب حركة التجارة الدولية والنمو الاقتصادى العالمى. وتاريخيًا، نشبت الحروب التجارية بين الاقتصادات الكبرى منذ القرن السابع عشر وغالبًا ما أدت إلى تغييرات سياسية وأزمات اقتصادية كبرى. فعلى سبيل المثال، تنافست بريطانيا وفرنسا وإسبانيا خلال القرنين السابع والثامن عشر فى فرض رسوم جمركية عالية لحماية صناعاتهم المحلية من خلال تقييد نفاذية الصادرات لأسواقهم المحلية. وكان لضريبة «الشاى» التى فرضها البريطانيون على السلع المستوردة إلى المستعمرات الأمريكية سبب رئيس فى اشتعال فتيل المقاومة الذى قاد إلى الاستقلال الأمريكى. وفى ثلاثينيات القرن الماضى، تسببت تعريفة سموت ــ هاولى الجمركية الأمريكية فى دفع الدول الكبرى الأخرى إلى فرض رسوم جمركية انتقامية؛ أضعفت النمو وفاقمت التداعيات الاقتصادية للكساد العظيم.
وبنهاية الحرب العالمية الثانية، اتجه العالم شيئًا فشيئًا نحو التخلى عن السياسات الحمائية، فتم إنشاء الاتفاقية العامة للتعريفات الجمركية والتجارة عام 1947 بهدف تحرير التجارة وتقليل الحواجز التجارية، ثم تسارعت هذه الجهود فى الثمانينيات والتسعينيات مع تأسيس منظمة التجارة العالمية عام 1995 وتوقيع اتفاقيات تجارية إقليمية كاتفاقية التجارة الحرة لدول أمريكا الشمالية، واتفاقيات إنشاء وتوسيع الاتحاد الأوروبى، والتى سعت جميعها لتعزيز النمو الاقتصادى وحفز المنافسة والابتكار وتشجيع الاستثمارات بين الدول الأعضاء. ورغم تزايد إجماع السياسيين والاقتصاديين على أن تحرير التجارة ضرورة حتمية لتحقيق التنمية المستدامة؛ فقد شهد العالم خلال العقدين الأخيرين موجات متكررة من العودة إلى السياسات الحمائية. فعلى سبيل المثال، فرضت الكثير من الدول المنتجة والمصدرة خلال الأزمة المالية العالمية فى 2008 قيودًا تجارية لحماية صناعاتها المحلية من المنافسة الأجنبية. وبين عامى ٢٠١٨ و٢٠٢٠، اندلعت الحرب التجارية الأشهر بين الولايات المتحدة والصين والتى أثرت سلبًا على سلاسل التوريد العالمية وحركة التجارة الدولية. وكانت القيود التجارية والعقوبات الاقتصادية إحدى الأسلحة الهامة التى استخدمها حلف الناتو لمواجهة روسيا بعد حربها على أوكرانيا. والآن، مع انطلاق ولاية ترامب الرئاسية الثانية، تدق الولايات المتحدة طبول حرب تجارية جديدة تنذر بتفاقم التوترات السياسية عالميًا وتثير مخاوف جدية بشأن تداعياتها السلبية على النمو الاقتصادى العالمى.
• • •
بعد هذا السرد، يصبح السؤال المنطقى هو كيف تُحدث الحروب التجارية تأثيراتها على الدول المستهدفة؟ وللإجابة، دعونا نأخذ مثالاً بسيطًا بقدر ما تتسع له سطور هذا المقال. من الناحية النظرية، فإن قيام الولايات المتحدة مثلاً بفرض ضرائب على واردات الصلب سيدفع الشركات الأمريكية لشراء الصلب المحلى بدلاً من المستورد. ومع زيادة الطلب على الصلب المحلى وتراجع المعروض، ستتجه أسعاره للزيادة تدريجيًا. بلا شك، فإن شركات الصلب الأمريكية قد تستفيد؛ ولكن الشركات التى تحتاج إلى الصلب، مثل مصنعى السيارات، ستواجه زيادة فى التكاليف، مما سيرفع أسعار منتجاتها النهائية ويضر المستهلكين. وعندما ترد الدول المستهدفة بإجراءات مماثلة، فقد تواجه الصناعات الأمريكية المستهدفة صعوبات وتضطر إلى تقليص العمالة وزيادة الأسعار، مما يؤثر على تنافسيتها وعلى الاستهلاك المحلى والدولى. طبعا، لا تحدث الأمور واقعيا بهذه البساطة؛ فهناك عوامل محلية وخارجية كثيرة تتفاعل وتتداخل معا لتحدد شكل وحجم التأثير النهائى على الحكومات والصناعات والمستهلكين.
• • •
الآن، ماذا عنا نحن، شعوب الدول النامية، الذين لسنا طرفًا فى صراع العمالقة هذا؟ والإجابة نجدها فى المقولة الاقتصادية الشهيرة «إذا عطست الولايات المتحدة، أصيب العالم بالزكام»، فكيف سيكون الحال إذا لم تكن مجرد عطسة، بل حربًا تجارية شرسة مع كبرى الاقتصادات العالمية؟ فمثلاً، تشير بعض الدراسات الأولية إلى أن إفريقيا قد تخسر ما يقارب 25 مليار دولار سنويًا نتيجة التداعيات المباشرة وغير المباشرة لهذه الحرب. يأتى ذلك فى وقت تعانى فيه الدول النامية بالفعل من أزمات غير مسبوقة، تمتد من توترات سياسية إلى ديون خارجية متراكمة، وارتفاع معدلات الفقر، وتفاقم انعدام الأمن الغذائى. نحن بلا شك أكبر الخاسرين، وليس الولايات المتحدة أو خصومها التجاريون.
ولتوضيح أحد أوجه هذه التأثيرات، يمكننا النظر إلى أزمة الديون الخارجية، التى باتت تؤرق حكومات الدول النامية فى السنوات الأخيرة. فمن المتوقع أن تؤدى هذه الحرب التجارية إلى ارتفاع قيمة الدولار الأمريكى ــ وهو ما يتماشى مع الاستراتيجية الاقتصادية لترامب حتى الآن ــ وبما أن معظم الديون الدولية مقوّمة بالدولار، فإن ذلك يعنى أن على دول مثل مصر إنفاق المزيد من عملتها المحلية لشراء الدولار، ما سيرفع تكلفة الاقتراض الخارجى، ويفاقم أعباء خدمة الدين، بل وربما تعجز بعض الدول عن سداد التزاماتها فى حال استمر الصراع لفترة طويلة. كذلك، فإن الحروب التجارية ترفع حتمًا مستويات عدم اليقين فى الاقتصاد العالمى، وهنا قد يقوم المستثمرون بسحب أموالهم من الأسواق الناشئة لصالح الاقتصادات الأكثر استقرارًا؛ مما سيؤدى إلى هروب رءوس الأموال، وتراجع الاستثمارات الأجنبية، وتباطؤ النمو الاقتصادى، ورفع معدلات البطالة. إضافة إلى ذلك، تعتمد الدول النامية على الاتفاقيات التجارية والسياسات التفضيلية التى تمنحها الاقتصادات الكبرى. لكن السياسات الحمائية التى يتبناها ترامب، بما فى ذلك إعادة التفاوض على الاتفاقيات التجارية أو إلغاؤها، تهدد هذه الترتيبات. وقد تجد الدول النامية التى تعتمد على هذه المعاملات التفضيلية للوصول إلى الأسواق العالمية نفسها فى غير قادرة على المنافسة فى الأسواق الدولية، فتتراجع صادراتها وتفقد مصدرًا هامًا لتمويل التنمية
• • •
فى النهاية، نحن، شعوب الدول النامية، لسنا مجرد متفرجين فى هذه الحرب التجارية، بل نحن الضحية الأكبر فى معركة لا يد لنا فيها. لكن، هل من سبيل لتفادى ويلاتها؟ واقع الأمر أن خياراتنا باتت محدودة، بعدما تركتنا سنوات من السياسات الاقتصادية غير الرشيدة تخطيطًا وتنفيذًا فى موضع المفعول بهم لا الفاعلين؛ فصرنا أكثر عرضة للتقلبات الاقتصادية العالمية، ودون أن نمتلك الأدوات الكافية لمواجهتها. ورغم ذلك، لا يزال بإمكاننا فى المدى القصير العمل على تعزيز مرونتنا الاقتصادية من خلال تنويع شركائنا التجاريين وتقليل الاعتماد على الأسواق الكبرى؛ مما قد يحد من تداعيات الرسوم الجمركية والقيود التجارية المفاجئة. كما ينبغى تقديم حوافز للشركات المحلية لمساعدتها على التكيف مع التغيرات، سواء عبر تخفيض الضرائب أو تقديم دعم مالى للصناعات الأكثر تضررًا. أما على المدى الطويل، فلا بد من تبنى استراتيجية شاملة تركز على إصلاح الهياكل الاقتصادية، وتطوير قطاعات صناعية وتقنية أكثر تنافسية، بهدف تحقيق الاكتفاء الذاتى وتعزيز الإنتاج المحلى. ولا يمكن تحقيق ذلك دون استثمارات جادة فى التعليم، والتدريب، والبحث والتطوير، لضمان امتلاك قاعدة إنتاجية متقدمة قادرة على المنافسة عالميًا، بدلًا من الاعتماد على تصدير المواد الخام الذى يجعل اقتصادنا هشًا أمام تقلبات السوق. لكن قبل كل ذلك، فإن الخروج من هذا الوضع يتطلب إصلاحًا سياسيًا حقيقيًا يضمن مشاركة أوسع فى صنع القرار الاقتصادى، بحيث تُبنى السياسات على أسس مدروسة لا كردود أفعال عشوائية على الأزمات المتكررة. الخلاصة، الوضع متأزم، ولكن الحلول ليست مستحيلة طالما وُجدت إرادة سياسية حقيقية ورؤية اقتصادية استراتيجية بعيدة المدى. فهل نحن مستعدون لذلك؟