كثرة المبيعات ليست دليلا قاطعا على جودة ما يباع (سواء كان كتابا أو أى سلعة أخرى)، ولكن قلة المبيعات ليست أيضا دليلا على الجودة. هذا كلام بديهى، ولكنه يحتاج إلى كلام كثير، حيث كثر فى الآونة الأخيرة الهجوم على بعض الكتاب الموهوبين، الذين أنتجوا بعض «الكتب الأكثر مبيعا»، واتخذت كثرة مبيعاتهم وسيلة للهجوم عليهم.
أظن أن الإنصاف يقتضى أولا أن نقول إن من بين «الكتب الأكثر مبيعا» كتبا جيدة جدا، وكتبا سيئة جدا، وكذلك كتب متوسطة. ولكن هذا ينطبق أيضا على الكتب المحدودة التوزيع، والتى لا تحظى بإعجاب جماهيرى، ففيها أيضا كل الأنواع: الجيد والسيئ والمتوسط.
وتفسير ذلك سهل للغاية، ولكن بعض الكتاب لا يريدون الاعتراف به لأنهم حانقون وبعضهم غيورون جدا من بعض من حققوا نجاحا جماهيريا، كان الحانقون والغيورون يتمنونه لأنفسهم.
النجاح الجماهيرى للكتاب (وكذلك الفيلم أو الجريدة... الخ) قد يكون سببه أنه يخاطب العنصر المشترك فى الجماهير الغفيرة، كالاهتمام بالجنس، أو الفضائح، أو الجريمة وأعمال العنف. نعم، قد يقبل الناس إقبالا شديدا على كتاب من هذا النوع حتى لو لم تكن له قيمة فنية، ولهذا نقول إن كثرة المبيعات ليست دليلا قاطعا على جودة ما يباع.
ولكن لابد أن نسرع بالقول أيضا ان هناك أشياء جميلة جدا تخلب لب الأعداد الكثيرة من الناس. فالناس لا يشتركون فقط فى الاهتمام بالجنس والفضائح... الخ، ولكن الكثيرين منهم لديهم أيضا، ولحسن الحظ، استعداد لتقدير الجمال والموهبة، خاصة إذا كان التعبير بسيطا وغير معقد.
الناس يحبون المنظر الطبيعى الجميل، ويقدرون النكتة الظريفة إذا ألقيت من شخص يحسن روايتها، ويعجبون بالقصة المحبوكة والمشوقة، والروايات التى تنضح شخصياتها بالحياة، وتتكلم عن مشكلات حقيقية يعانونها بالفعل، فتحسن وصفها وتحليلها، حتى يشعر القارئ بأنها تكاد تتكلم عن مشكلته الشخصية.
هذا النوع الأخير من الكتب لابد أن تكثر مبيعاته، فما الضرر بالضبط فى ذلك؟ ولماذا نغمط حق الكاتب الذى نجح كتابه لسبب من هذه الأسباب، قائلين محتجين وبغيظ واضح: «كثرة المبيعات لا تدل على شىء»؟!
لدينا فى الجامعة أمثلة مشابهة لهذا.
هناك الأستاذ الذى يحظى بشعبية واضحة من تلاميذه لمجرد أنه اشتهر بأنه متساهل فى منح الدرجات. وحيث إن التلاميذ كلهم يريدون النجاح، فهم يقبلون عليه أكثر مما يقبلون على غيره. ولكن كل التلاميذ أيضا يحبون أن يفهموا ما يقال، ومعظمهم يقدرون فى الأستاذ قدرته على إفهامهم، أو اتساع علمه أو سعة ثقافته أو حسن إلقائه، بل وكثيرون من هؤلاء قد يفضلون الأستاذ العادل فى منح الدرجات على الأستاذ المتساهل فى منحها. إذن فالأستاذ الجيد قد يحظى أيضا بـ«شعبية» بين تلاميذه، قد تزيد أو تقل عن شعبية الأستاذ الأقل جودة ولكنه أكثر تساهلا. هنا أيضا الشعبية ليست دليلا نهائيا على تحقق الجودة أو عدم تحققها.
أضف إلى كل ذلك أن «الجماهيرية» أو «الأكثر مبيعا»، وصفان يتغير مدلولهما بتغير الظروف والزمن. فطه حسين وتوفيق الحكيم مثلا، كانا بلا شك من أكثر الأدباء المصريين نجاحا بين جماهير القراء فى الأربعينيات والخمسينيات، ولكنهما ليسا كذلك الآن، أو على الأقل ليس لهما الآن ما كان لهما من شعبية حينئذ، وأسباب ذلك واضحة، فالأذواق تتغير، والمشكلات التى يهتم الناس بها تتغير أيضا، بل ومعيار الأسلوب الجميل يتغير أيضا.
وعلى كل حال فإن «حجم الجماهير» يتغير كذلك، فبيع ثلاثة آلاف نسخة فى سنة واحدة فى الخمسينيات كان يعتبر نجاحا باهرا للكاتب، قد يعادل نجاح الكاتب الآن فى بيع مئات الآلاف من النسخ، لمجرد أن السكان يزيدون، والتعليم ينتشر، وأساليب الإعلان تتقدم. فلا يجوز أبدا إذن، ان نقول ان النجاح الساحق الذى حققه علاء الأسوانى مثلا، فى السنوات الأخيرة، لا يدل على موهبته وبراعته ككاتب، لمجرد أن توفيق الحكيم أو طه حسين لا تباع من كتبهما الآن هذا العدد الكبير من النسخ.
يقولون أيضا ان النجاح الجماهيرى ليس معيارا جيدا للحكم على جودة الكتاب، بل العبرة هى برأى النقاد المتخصصين فى الأدب، والعارفين لأصوله وقواعده.
وأنا أجد هذا الرأى يتضمن خلطا مرفوضا بين الحق والباطل، نعم، رأى النقاد مهم، ولكن ليس كل النقاد، تماما كما ان حكم الجمهور قد يكون سطحيا ومدفوعا باعتبارات ضعيفة الصلة بالجودة، ولكن ليس دائما.
نحن نعرف من النقاد كثيرين ممن يتسمون بضعف إحساسهم بالجمال ضعفا مشينا، وقد يحتمون بحصولهم على الدكتوراه فى النقد الأدبى، دون أن تكون لديهم قدرة حقيقية على التمييز بين رواية جيدة ورواية ضعيفة. ناهيك عن ظاهرة الشللية الشائعة فى ميدان النقد الأدبى، وانتصار نقاد لأديب لأنه صديقه أو لأنه ينتمى إلى نفس مذهبه السياسى، ونقمة ناقد على أديب لأنه حقق شهرته بين الناس دون حاجة إلى تقريظه، ودون أن يقدم لهذا الناقد فروض الولاء والطاعة.
هذا هو حال النقد الأدبى فى كثير من البلاد، وليس فى بلدنا وحدها. أما الجمهور فإنه كثيرا ما يبارك ويحتفل بأعمال غاية فى الجمال فى الأدب والمسرح والسينما والموسيقى... الخ.
(انظر مثلا جماهيرية رواية موسم الهجرة إلى الشمال للطيب الصالح، فى البلاد العربية والأجنبية، أو جماهيرية فيلم ومسرحية سيدتى الجميلة، فى مصر وخارجها، أو مسرحيات الريحانى وأفلامه، التى لا يملها الناس حتى الآن، بجماهيرهم الغفيرة أو اشعار صلاح جاهين التى يحتفل بها الكبار والصغار... الخ).
كل هذه الأعمال وغيرها كانت ولا تزال من الأعمال «الأكثر مبيعا» فلماذا إذن كل هذا الغضب على جماهيرية أديب مصرى، حقق نجاحا باهرا بين أهله وفى الخارج؟ هل كان يجب عليه أولا أن يحظى بمباركتكم وجوائزكم؟ أم كان عليه أولا أن يهدى كتبه للرئيس والسيدة الأولى، وأن يعترف بفضلهما فيما أعطاه له الله من موهبة؟