إذا كنت مستعدا لتصديق أكذوبة أن شخصا خدم فى بلاط مبارك سنوات طويلة يستطيع أن يطعمك من جوع ويؤمنك من خوف، ويعطس فتهتز الدنيا ليتساقط عليك المال، وتمطر السماء عسلا ولبنا، فهذا يعنى أنك تتلذذ بأن تعيش فى دور المخدوع الذى أدمن ألاعيب الحواة والنصابين.
لقد مكث حسنى مبارك فى الحكم ثلاثين عاما، كان خلالها يتحدث سنويا عن الرخاء والنماء والرفاهية التى عرفتها مصر على يديه، وكلما أمعن فى الكلام عن المنجزات كانت مأساة الواقع تتسع والكارثة تتكشف، لنصحو جميعا على كوابيس المرض والفقر وإهانة آدمية البشر.
لقد اعتمدت خطة المرحلة الانتقالية على تحويل عملية الانتخاب من فعل أخلاقى محكوم بالعقل والوجدان والضمير، إلى مجرد ممارسة غريزية تقوم على مخاطبة واستثارة البطون التى جرى تجويعها بتعمد، ومداعبة حاسة الخوف والرعب بعد 15 شهرا من زراعة الفزع والترويع.. وبالتالى يمكن القول إن من حكم البلاد وقهر العباد طوال هذه الفترة كان يزاول نوعا من القتل المتعمد لأغلى ما يملكه الإنسان، وهو ضميره وبشريته، بحيث يصبح مع الانتخابات كائنا يفكر بمعدته، يسهل سحبه من أمعائه وتوجيهه إلى حيث يشاء من بيده المقاليد.
والحاصل أنهم عملوا على اعتقال إرادة المصريين داخل أسوار الإحساس بالجوع والخطر، وافتعلوا أزمات اقتصادية محبوكة، مثل مسلسل نقص البنزين والبوتاجاز، بالتوازى من صناعة سينما الخطر الخارجى ومخططات الغزو الأجنبى، مراهنين على أن المواطن سيلغى عقله، ويضع معدته فى رأسه، وينصرف تماما إلى البحث عن الرغيف ونبوت الخفير الذى يحميه.
وعلى هذه الأوتار يعزف المرشحون المباركيون، متقمصين شخصية كونتا كونتى الشجيع الذى سيذهب إلى الغابة يقتل الوحوش والضوارى ويصطاد الحيوانات البرية ويقطع الأخشاب، ويعود لإطعام الجوعى وتأمين الخائفين وإشعال المواقد كى يستدفئ عليها العراة.
وإذا سألهم سائل: كيف ومن أين كل هذه القوة والعافية، وما هى وسائلهم؟ لا تجد أكثر من كلام مثل الذى كان يردده سلفهم المخلوع، غير عابئين بأن هناك شيئا اسمه الوعى الفطرى والضمير السوى، الذى يسطع فجأة فى توقيت يدهش الجميع.
وما جرى فى انتخابات مجلس الشعب التى جرى تخطيطها وتصميمها بحيث تعيد بقايا نظام مبارك للحياة، كان فيه المثل والعبرة.. تماما كما تقدم مواطنون شجعان أسوياء للتصدى إلى مسخرة الجمعة الماضية فى حدائق القبة، غير آبهين بالبطش والقمع، ليثبتوا للعالم كله أن الشعب الذى ثار من أجل حريته وكرامته الإنسانية لن ينخدع بهذا الأداء الأكروباتى المضحك من مرشحين يخبئون مبارك تحت جلدهم، وكانوا شركاءه فى جريمة سحق الشخصية المصرية طوال فترة حكمه.
إن الشعب الذى منع الفلول من استعمار البرلمان، ونزل بالملايين انتصارا للدم والعرض عقب جرائم محمد محمود وماسبيرو، لن يتحول بين عشية وضحاها إلى مجرد أمعاء خاوية.