لم أدرك أنه ذاك الوقت من السنة فالأيام تسبقنا أو نسبقها سريعًا، لم أدرك إلا عندما لوحت لى هى من خلف زجاج نافذة السيارة بالغاردينيا تلك الزهرة التى أعشق والوقت ليلًا والعربات تكتظ بسكانها الجارين نحو سهرة نهاية الأسبوع الممتدة، سيدة فى منتصف العمر تتخذ من هذه الزاوية مقرًا ليليًا لها مع مجموعة أخرى من اللاجئين بالأخص هن فى معظمهن لاجئات ومعظمهن فتيات فى أعمار مختلفة يتوزعن شوارع بيروت بشكل على درجة من الحرفية والتنظيم لأنهن بالتأكيد ضحية لعصابات لطالما استغلت العديد من الأطفال اللبنانيين والفلسطينيين والسوريين وكل الجنسيات الأخرى الضعيفة والتى تعيش ظروف معيشية صعبة لأمور مثل هذه ربما تسمى تسول ولكنها فى الأكثر من ذلك هى استغلال بشع لضعف هذه المجموعات من فقراء هذه الأوطان.
***
أكثر ما يدعو للحزن الشديد أن كل هاته النسوة والفتيات يكفيهن ما يكفيهن من تحمل اللجوء والغربة والكثير من القسوة فى المعاملة وبالتأكيد التحرش والانتهاكات الجسدية ثم يدفعن إلى الذل والعمل ليلًا فى ظروف يعمل القائمين على استغلالهن أنها ستعرضهن حتمًا للكثير من الاستغلال أيضًا.
هى ليست الوحيدة الواقفة بشحوبها وإحساسها الشديد بالذل وقسوة الحياة بل أيضًا بالإهانة لإنسانيتها وكرامتها، ترافقها وعند نفس التقاطع فتيات صغيرات أهمهن ربما نور التى لا تفارق الابتسامة وجهها الطفولى الصبوح.. تستقبلك بالسؤال عنك وكأن حالك أسوء من حالها هى الفتاة التى قذفت بها الحرب من دفء بيتها إلى برودة الشارع أو ربما الشوارع المختلفة.
هى الأخرى تحمل علب ورق المحارم أحيانًا أو بعض الزهور الذابلة ربما كتلك السيدة التى ذبلت منذ أن طاردتها القنابل والصواريخ وكل أنواع الأسلحة التى لم تكن تعرف عنها أى شىء سوى أنها هناك فى البعيد البعيد..
نور الأخرى تأتى كل مساء مع من تقول: إنها والدتها الجالسة عند حافة الرصيف لا أعرف هل هى لتحرس نور أم لتطمئن على ما ستستطيع أن تجمعه؟! ولا تترك موقعها هذا حتى الساعة الثانية فجرًا.. فتاة فى الرابعة عشر أو أقل تقضى مساءاتها عند التقاطع الذى تدرك أو يدرك من وضعها فيه أنه نقطة التقاء الشوارع المؤدية إلى مناطق السهر فى بيروت بما يحمله ذلك من أعداد أكبر من العربات، طبعًا المحملين بأنواع من البشر ليسوا بأجمعهم غير مكترثين ولا هم ملائكة حتمًا أمام تجمع من الفتيات الضعيفات..
***
هذه حكاية ليست بالجديدة وليست خاصة ببيروت أو لبنان بل توسعت لتصل مدن عربية عديدة وأخيرًا مع كثرة النزوح وصلت حتى للمدن الأوروبية. أن تكون المرأة هى أول النازحات واللاجئات وأن يصبح للجوء وجه نسوى فهو أمر يعرفه الجميع وأن تستغل المرأة فى أصعب ظروفها فهو الآخر ليس بجديد والدراسات ترص الواحدة فوق الأخرى على أرفف المنظمات الدولية والإقليمية وحتى المحلية، ولكن أن تبقى هذه الصور المتكررة لاستغلال بشع ويقف العالم ليتفرج على مشاهد الفتيات الصغيرات بعضهن تحملن أطفالا رضع إما فى حالة من النوم أو التخدير الدائم فهذا أمر لابد وأن لا يسكت عليه وخاصة من منظمات وهيئات المجتمع المدنى التى تعمل على دعم النساء فى الظروف الصعبة، وعلى هيئات المجتمع الدولى التى تغص كلما تحدثت عن معاناة النساء فى سوريا واليمن وليبيا وغيرها.
***
حكاية الغردينيا التى تذبل سريعًا لكثرة الأيدى التى تلمسها وتداعبها مدعية الشراء هى ليست الأولى فهى فى عمق التاريخ الأسود للبشرية وستظل مكانتها هناك فى تلك الغرف المعتمة بجهلها وتخلفها واستغلالها البشع. أما حكاية نور التى تريد أن تعمل عملية لوز سريعًا كما وصتها أمها وقالت لها: إن تردد على الواقفين سريعًا عند الإشارة الضوئية لجمع أكبر قدر ممكن ولأنها أيضًا عليها أن تدفع إيجار بيت يملكه شخص آخر قد يكون أكثر استغلالًا من الواقفين عند إشارة الضوء الضاحكين على عجز وضعف وقلة حيلة هاته النسوة.. من يوقف الغاردينيات اللاجئات الصغار ومن يوقف هذه المعاناة الليلية حتى سويعات الصباح الأولى لفتيات هن بعضنا أو أكثر.