قضيت عدة أيام فى الرباط استجابة لدعوة كريمة من وزارة الشباب والثقافة والإعلام لحضور الدورة الـ29 من معرض المغرب الدولى للكتاب والنشر الذى انطلق الخميس الماضى، ويستمر حتى 29 من مايو الجارى.
وعلى كثرة أسفارى ومعرفتى الجيدة بالرباط، التى كانت آخر زيارة لها قبل 7 سنوات إلا أننى وجدت أمامى مدينة جديدة تمامًا لا بد وأن تثير إعجاب كل زائر، كما تثير غيرته أيضًا.
شاهدت مدينة ولدت من جديد، لا حدود فيها لسلطة اللون الأخضر، فهو يهيمن على كل الصور والتفاصيل، ولا يتركها إلا إكرامًا للبحر الذى يمثل سوارًا حول معصم المدينة، التى أصبحت كذلك مدينة النور، فمن النادر أن تظلم شوارعها وترصع الأنوار ليل المدينة، لتصبح شوارع، مثل محمد السادس ومحمد الخامس أو شارع فرنسا أهم وأجمل من شوارع مثل الشانزليزيه والسان ميشيل.
تتتسم الرباط كذلك بأمان لا حدود له، ويعزز وجود أفراد الشرطة من هذا الشعور لذلك يمضى الغرباء فى المدينة فى فضاءات تفيض بالألفة
وقد حاولت شخصيًا التعامل مع عدد من سائقى التاكسى هناك، واعتذر أحدهم عن توصيلى لحرصه على العودة إلى منزله لتناول الغذاء إلا أن رجل المرور فى الشارع لامنى، لأنى وعلى الطريقة المصرية استأذنت السائق لتوصيلى فى طريقه، وقال لى الشرطى: «اصعد إلى التاكسى واطلب منه توصيلك، وهو ملتزم بذلك وملتزم بالدفع وفقًا للعداد، فقلت فى بالى: إيشى خيال يا ناس، فنجاح جهود الجذب السياحى يعنى أن لا شىء يأتى بالصدفة».
حلت الرباط لغزًا لم تنجح الكثير من المدن فى حله إلى الآن، ومضت فى طريقها إلى التحديث دون أن تفقد عراقتها وحافظت فى نفس الوقت على حضور هويتها البصرية دون أن تجرحها أو تشوه جمالها، كما حلت معضلة التعامل مع التراث بصورة عملية لتجعله أحد روافع التنمية الحضرية، ويبذل المغرب إجمالًا جهدًا فى توثيق تراثه المادى واللا مادى على مختلف صوره وأشكاله، وأولها الطعام الذى ينظر إليه هنا كإحدى أدوات القوى الناعمة، ولم تكن فكرة الاحتفال بمنظمة اليونسكو ضيف شرف فى هذه الدورة من معرض الكتاب سوى صورة من صور التأكيد على أهمية بناء علاقة جيدة مع المنظمة الدولية المعنية بالثقافة والتراث.
تمكن المغرب خلال السنوات الأخيرة من تسجيل ما يملك فى قوائم التراث الإنسانى المهدد بالزوال.
من جهة أخرى حافظت الرباط كذلك على مستوى من النظافة يسهل إدراكه ويفوق أكثر المدن الأوروبية عراقة.
وفيما يتعلق بالنسيج العمرانى دمجت المدينة ماضيها مع حاضرها فى صورة من صور التناغم وجعلت مبانيها ومقابرها ذات الطرز المميز ضمن مصادر الاعتزاز بالهوية.
ومن المثير كذلك أن كل المنتزهات الخضراء متاحة أمام الجميع بالمجان ودون تذاكر، لأن الدولة تؤمن بإتاحة الفراغات العمومية، وتسعى دون كلل لتحسين أوضاع العيش هناك.
ويبدو لى أن قرار نقل معرض الكتاب من الدار البيضاء الى الرباط اتسم بالحكمة التى لمسها المشاركون، وزوار المعرض من خارج المغرب نتيجة الانضباط، البالغ فى حركة الزوار، وتجلت القدرات التنظيمية الفائفة بصورة جعلت من المعرض نزهة فى (هايد بارك) لعله الأكبر فى عالمنا العربى.
وشخصيًا لم أعرف مدينة عربية تذوب فى اللون الأخضر، كما رأيت الرباط التى ينعدم فيها التلوث تقريبًا، ويمكن للمرء أن يمشى فيها دون كلل أو ملل، لأن هواء المدينة بلغ درجة من النقاء لا يملك تصورها.
حفل المعرض الدولى للكتاب والنشر بمظاهر ناجحة متعددة أولها انضباط برنامجه الثقافى ونجاحه فى استقبال ضيوف من جميع أنحاء العالم، كما احتفل برموز وقامات ثقافية رفيعة القيمة والمقام مثل الدكتور أحمد المدينى كاتب القصة والرواية المجدد الذى يمثل بكتاباته وحضوره الإنسانى الراقى وجهًا من وجوه النبل فلا يزال بعد نصف القرن من الإبداع والعطاء النقدى قادرًا على تجديد منابعه الإبداعية، والتزامه اليومى مع القارئ عبر كتاباته الصحفية والنقدى التى تكشف التزامه بالقضايا القومية والإنسانية كذلك، إلى جانب حرصه البالغ على متابعة ما ينشر من إبداعات للأجيال الجديدة فى العالم، معتزًا بدوره ومسئولياته كمعلم وكاتب ورائد، لذلك كان حفل تكريمه بمثابة كرنفال كببر جذب أجيالًا من السياسيين والوزراء والأدباء، الذين احتفلوا بالمدينة، والتفوا حوله فى مظهر من مظاهر الاعتراف والإقرار بدوره المتميز.
يلتف المثقفون المغاربة من أجيال مختلفة حول المعرض ويتحلقون حول برامجه ويملأون ردهاته بحضور فعال فبعضهم يأتى من بلدان المهجر ليجدد صلته بالبلاد شاعرًا بمسئولياته إزاء صورتها الجديدة ومجددًا الصلة مع القارئ المغربى الذى يفوق بخياراته الواعية قدرات أى قارئ عربى آخر، ولهذا احتفظ المعرض الدولى للكتاب فى المغرب بالتفرد، وأصبح خارج دوائر المنافسة مع أى معرض آخر، لأن ما يملكه المغرب سحر يعرف كيف يعلن عن نفسه ويفرض حضوره.