انشغل الناس فى الأسبوعين الماضيين بمتابعة أخبار مشروع الموازنة الجديدة وما تضمنته من فكرة استحداث بعض الضرائب الجديدة، ثم ما تلى ذلك من سجال بين أصحاب الآراء والمصالح المختلفة أدى إلى تراجع الحكومة عن بعض ما أعلنته.
انشغال الناس بهذا الموضوع فى حد ذاته ظاهرة صحية وإيجابية للغاية، لأن النتيجة الطبيعية لما حدث فى مصر من تغير سياسى وديمقراطى هو أن يحرص الناس على فهم ومتابعة المناقشات الخاصة بالموازنة العامة وبمصادر تمويلها وأوجه إنفاقها.
فالاهتمام بالموازنة العامة هو التعبير الحقيقى عن المواطنة الاقتصادية. وإن كانت الانتخابات وصناديق الاقتراع هى الجانب السياسى من الديمقراطية، فإن المشاركة الشعبية فى اختيارات الموازنة العامة هى الجانب الاقتصادى منها، وهما وجهان لعملة واحدة. وكلما تعمقت الممارسة الديمقراطية فى البلد، كلما صار التنافس بين الأحزاب والتيارات السياسية منصبا على الخيارات والبدائل الاقتصادية، وصار الناس يقيمون ويختارون مواقفهم الحزبية والسياسية على أساس أثر الموازنة العامة على الاقتصاد والمجتمع، وليس بناء على شعارات وانطباعات ووعود قد لا تتحقق أبدا. والموازنة العامة بهذا المعنى ليست مجرد وثيقة اقتصادية يقتصر فهمها على الاقتصاديين ورجال المال والمحاسبة، بل هى وقبل كل وصف آخر وثيقة اجتماعية تعبر عن اختيارات المجتمع وأولوياته ومفهومه للتنمية والعدالة.
ولكن إن كانت مشاركة الناس فى المتابعة كانت الجانب الإيجابى من الجدل الذى ثار فى الأسبوعين الماضيين، فإن الحوار نفسه كان فيه الكثير مما ينبغى التوقف عنده. على رأس ذلك فكرة استخدام الضريبة لتحقيق العدالة الاجتماعية. فهناك اتفاق عريض فى المجتمع على الحاجة لتعديل النظام الضريبى بما يزيد من مساهمة الأكثر ثراء فى سداد الضرائب لمصلحة باقى طبقات المجتمع، وهذا ليس محل خلاف وتتفق عليه الغالبية من التيارات والأحزاب السياسية والرأى العام.
الإشكالية هى أن تحقيق العدالة الاجتماعية لابد أن يقابله اعتبار آخر هو كفاءة التحصيل الضريبى. فالعدالة فى الضريبة تستدعى البحث فى الدخول الحقيقية، وإنشاء فئات وشرائح مختلفة، وإعفاءات متعددة لمحدودى الدخل، ومعاملة مختلفة لأصحاب الأوضاع الخاصة والمهمشين، ومزايا وحوافز لمن يستثمرون، وغير ذلك من وسائل التمييز بين الغنى والفقير بحيث يمكن التمييز فيما يدفعه كل منهما فتتحقق العدالة المنشودة. ولكن كلما زادت رغبة المجتمع فى تحقيق المزيد من العدالة كلما زادت صعوبة وتعقيد النظام الضريبى وبالتالى تزايدت فرص التهرب والتلاعب واحتمالات الفساد.
لذلك فإن الضريبة الأفضل ليست تلك التى تسعى لتحقيق العدل المطلق، وإنما التى تحقق أكبر قدر ممكن من العدالة ولكن تكون فى الوقت نفسه قابلة للتطبيق بسهولة نسبية، وهى معادلة صعبة. لذلك ففى إطار الرغبة والاتفاق على إعادة هيكلة الضرائب للأخذ من الأثرياء لمصلحة الفقراء يجب مناقشة البدائل بهدوء وترو حتى لا تكون النتيجة عكس ما هو مطلوب، أو الدخول فى غابة من النظم والقواعد والإعفاءات والاستثناءات غير القابلة للمتابعة والرقابة. وهناك أفكار عديدة مطروحة فى هذا المقام، فقد يكون من المناسب الاحتفاظ بضريبة موحدة للدخل ولكن مع رفع سعرها وزيادة الإعفاءات الممنوحة لمحدودى الدخل. وقد يكون من الأفضل أن يتم وضع نظام يقوم على شريحتين ضريبيتين فقط، واحدة عامة والأخرى لمن يتجاوز دخلهم حدا معينا، أى ضريبة تصاعدية ولكن على مرحلتين لتجنب التعقيد. وقد تكون هناك وسائل أخرى لتحقيق مبدأ تصاعدية الضريبة دون فتح أبواب التهرب والتلاعب. الحلول متعددة ولكل منها مزايا وعيوب فى معادلة العدالة/الكفاءة، والمجتمع بحاجة لفهم هذه البدائل حتى يكون اختياره واعيا، ومحققا لمصالحه الحقيقية لا المفترضة.
من جهة أخرى، فإن القرار الضريبى فى كل العالم لا يؤخذ من منظور نظرى فقط، وإنما يكون مستندا إلى دراسات تحدد العائد والتكلفة المتوقعة من كل تصور وكل بديل، والسيناريوهات المختلفة المطروحة وما يترتب على كل منها، سواء كان المقصود بذلك هو العائد الاقتصادى أو الاجتماعى. الأهم من ذلك أن هذه الدراسات لا تكون سرية، بل تعدها جهات بحثية متخصصة ــ أكاديمية أو حزبية أو غيرها ــ وتطرحها على الناس باعتبارها حقا من حقوقهم الأساسية حتى يختار المجتمع بناء على وعى وفهم مشترك. ونحن بحاجة إلى نقلة نوعية فى هذا المجال وإلى تعاون ما بين الحكومة وبين الأحزاب والتيارات السياسية فيما يتجاوز خلافاتها الفكرية وتنافسها الطبيعى على كسب الجماهير إلى العمل المشترك الذى يهدف إلى تنمية الوعى بالضريبة والموازنة العامة للمواطن وللعاملين فى الحقل السياسى والاجتماعى بحيث تكون هناك أرضية مشتركة فى الحقائق والأرقام وفى فهم تكوين الموازنة العامة وبنودها، ثم يأتى بعد ذلك الخلاف السياسى والتنافس على أصوات الجماهير.
هذه التوعية مهمة أيضا لأنها تجعل الأحزاب أكثر حرصا فى مخاطبة جماهيرها. فما أسهل الوعد بمضاعفة الإنفاق على التعليم وعلى الصحة وعلى النقل العام، ولكن على من يقول ذلك أن يشرح للجماهير أيضا مصدر هذا الوفر وما الذى سوف يتم تخفيضه من بنود الإنفاق فى الموازنة، لأن الزيادة فى موضع لابد أن يقابلها نقص فى موضع آخر، أو يقابلها زيادة فى الموارد يجب أيضا شرحها واقناع الناس بإمكانية تحقيقها. والحديث عن ضرائب جديدة يجب أن يحدد من الذين سوف يتحملون بها حتى لا ينتهى الأمر بوقوع العبء الأكبر من الضريبة على الطبقة الوسطى التى لا تملك الفكاك من كل الضرائب. والإعفاءات الممنوحة لمحدودى الدخل يجب أن تكون مؤدية لنتائج حقيقية لا أن تمنع صعوبة تطبيقها من الاستفادة منها، فتظل حبرا على ورق. ارتفاع الوعى الضريبى إذن يجعل السياسيين والأحزاب محل مساءلة من الناخبين والجماهير وبالتالى أكثر حرصا فى الوعد وطرح البرامج الانتخابية.
السياسات الضريبية للبلاد ليست مجرد جباية، ولا هى مجرد وسيلة لتوزيع الدخل، ولا ينبغى أن يتم تقريرها دون دراسة متعمقة للبدائل والتكلفة والعائد. ومجتمعنا فى بداية طريق طويل ينبغى أن تتضافر فيه جهود الحكومة والأحزاب بما يتجاوز خلافاتها وتنافسها من أجل تعميق الوعى بالموازنة والضريبة لأنهما حجر الأساس فى مشاركة المواطن فى تقرير مصير بلاده ومجتمعه.