أذكر في أيام مضت سيدة كانت تساعد أمي في أعمال المطبخ. تخصّصت رغم كياستها ولطفها في دَشّ الأكواب وفي كَسر أحرف الأواني الفخّار، لا يسلم منها ما إن تبدأ الغسيل طبقٌ أو وعاءٌ، ولا ينجو ولو بالمصادفة صحنٌ أو فنجان. لم يعد أحدنا يغضبُ بعد فترة قضتها تعاود المنزل بانتظام، فتلك طبيعتها لا تتمكَّن من تغييرها، تستمع للتعليماتِ في بشاشةٍ لا تُنكَر، تؤكد أنها ستبذل ما في وَسعها من حِرصٍ وحَذر، ثم نسمع صوتَ الاصطكاك والتهشُّم بعد لحظات، وندرك أن الكلامَ لن يأتي بنتيجة وأن علينا التأقلُم مع طباعِها الهَوجاء. مضى الزَّمنُ ولم تعد قادرةً على العمل وحلَّت محلَّها أخرى توسّمنا خيرًا في تيقُّظها ونشاطها، ولم تلبث أن أصيبت بالعِلَّة نفسِها وانطلقت لا تحيد عن المَسار المعلوم؛ تدشُّ غرضًا وراء الآخر وتبتسم حين نكتشف فعلتَها في خُفرٍ وحياء.
• • •
يأتي الفعلُ دَشَّ في قواميس اللغة العربية بمعنى فتت وجرش، الفاعل داشَ والمفعول به مَدشوش، فإذا قيل قد دَشّ الولد الزجاج؛ كان المعنى أنه كسره، أما إذا دَشّ البائع الحبوبَ فالمعنى أنه صحنَها وجعلها أجزاءً دقيقة. الدَشُّ هو المصدر أما الدَّشْتُ بتسكين الشين؛ فاسمٌ من أسماءِ الصحراء.
• • •
تُعدّ البصارة من أشهر الأكلات المِصريّة التي تلقى قبولًا واسعًا، وتُصنَع من الفول المَدشوش؛ أيّ هذا الذي جرى تكسيره ولم تعد حباته مُكتملة على هيئتها العادية. تُضاف كمياتٌ كبيرة مِن الخُضرة ومُكونات أخرى؛ لتنضجَ في النهاية وجبة شهية، كانت فيما مضى رخيصةَ الثمن، يعرضها بائعو الفول والطعمية في علب يتم حفظها داخل الثلاجات، مُتوّجة بالبصلِ المقلي. اختُزِلَ حجمُ العلب المُجهّزة وتحوّلت إلى عبواتٍ صغيرة لا تُشبِع، وتضاعَف الثمنُ مراتٍ مع ارتفاع أسعار البقول، وانتقلت البصارة بالنسبة لطبقات عدة مِن مَرتبة القريب المُستطاع إلى مرتبة البعيد المُشتهى.
• • •
إذا دَشَّ المُتحدثُ في خطابه فقد أكثر من الكلام ولغا دون أن يكون هناك داع، ودون أن يُجمِل في حديثه ما يفيد السامعين، وما أكثر من يدشُّون، ويلتون ويعجنون، ويملُّ منهم الناس فيتمنون لو سكتوا وتركوا للصمت مساحة. على المنوال ذاته يأتي الدَشُّ في الامتحانات؛ يكتب الطالب مقالًا مطولا يملأ به الصفحات، وربما انتهى كراسُ الإجابة قبل أن ينتهي من إدراجِ ما يريد، والحقُّ أن الكثرة لا تعني بالضرورة وجودَ مَضمون مُهم أو مَقبول؛ لكن هذا الكمَّ الهائل ينجح بعضُ الأحيان في استدرار تعاطُفِ المُمتحنين والمُصححين؛ فيُنعمون ببعض الدرجاتِ على قليلِ الخبرةِ الذي بذل في الإجابة والإسهاب جهدًا واضحًا؛ وإن لم يكُن في محلّه. في أحيان أخرى يغتاظُ المُصحِّح ويتملّكه الاستفزاز؛ فضياع الوقتُ في قراءة ما لا يُغني من جوعٍ ولا يطرقُ صُلبَ الموضوع؛ إنما يُعدّ من قِلّة الأدب وضَعف التقدير؛ يكون الدَشُّ حينها مدعاةً لرسوبِ الطالبِ وحافزًا على تكديره.
• • •
يعرف الدُشّ بأنه أداة تنهمر منها المياهُ وتنصبُّ على الرأس ما أراد المرءُ الاغتسال، ويبدو أن الرذاذَ المُندفِع من الثقوب العديدة هو السَّبب في المُسمَّى؛ ففيضُ المياه المُنسكِب يوازي ويماثل فيضَ الكلامِ الذي يضيع أكثره هباءً دون أن تحتويه أذنٌ، وفي نهاية الأمر ينتهي هذا وذاك إلى بالوعة ما.
• • •
ربما ارتكب الواحدُ منا خطأ فادحًا، وزجَّ بنفسَه في موضعٍ لا يُحسَد عليه، وصادف من أعطاه دُشًا باردًا جزاء ما صنع. الدُشُّ البارد بضمّ الدال تعبير شعبيٌّ أصيل، يكني وصلةً من الكلام السخيف الذي يعمَد إلى خَدش الذاتِ وتصغيرها، ويزخَر بما يستوفي أغراضَ التوبيخِ والقدحِ والتبكيت. الشخصُ الذي يتلقى الدُشّ عادة ما يكون في مَوقِف ضَعف، أما الذي يُعطيه فقادر مُتجبّر، يمسك بالزمام ويُمعِن في كَيل المذمَّة والتذكير بالفعلةِ أو النقيصة. ربما يُخفّف من وقع الدُشّ أن يكون مُستحقًا، وأن ينخرطَ المُخطئُ في لومِ نفسِه بنفسِه وفي استزادةِ مُؤنبه؛ لكن العادةَ جَرت أن يدافع الواحد منا عن أفعالِه مهما تردَّت، وأن يردَّ عن ذاته الهجوم.
• • •
على مدار عقودٍ ماضيةٍ ميَّزت الدشداشةُ أبناءَ شبه الجزيرةِ العربيةِ والعِراق وبعض مناطق الشامِ وشمالِ أفريقيا. رداءٌ أبيضُ اللون في غالب الأحوال، يُغطي الجَّسد كله ويُوفر له الحرارةَ المناسبة في مناخٍ من القيظ. دارت الأيامُ دورتها وتبدَّلت الحال، وزاحمت البذلةُ الكاملةُ الدشداشةَ في مكانتها، خاصة وقد توفَّرت مُكيفات الهواء في كلّ مكان وباتت من مُستلزَمات الحياة.
• • •
كلما التقيت صديقًا أو صديقةً مِمَن يحملون قلقَ الكتابة؛ تلاقت همومُنا وشكوانا، فالورق الذي نستخدم جميعًا في الطباعة داخل بيوتنا صار بعيدَ المنال. ثمنُ الرُّزمة الذي كان ممكنًا بات مستحيلًا، وأمست الأوراق البيضاء مغنمًا عزيزًا؛ وكأننا نطلب ألماسًا أو ياقوتًا ومرجانًا. كثيرون تحولوا إلى استخدام الورق الدَّشْت؛ ذاك الذي يُعرَف بأنه كمٌّ مُهمَل غير مُرتّب، لا يحمل معلوماتٍ مُهمّة ولا قيمة. هو ورقٌ قد جرى بالفعلِ استعمالُه، وحملَ أحد وجهيه نصًا أو مُسودةً أولى، ولا بأس إذًا من إعادة استخدامِه وتدويره؛ فالطابعةُ ما برحَت تقبله مَشكورةً ليخرجَ منها بوجهين، والحقُّ أن تلك مفارقةٌ يعزُّ غضُّ الطرفِ عنها؛ ففي الأيام التي يشحُّ خيرُها، ويضيقُ عن الناسِ وسعها؛ يندر أن يستقيمَ أمرٌ أو يبقى على حالِه ولو كان ورقة.