لقد كان الحدث نهاية مرحلة من الصراع بين إرادتين، بين مشروعين متعارضين؛ مشروع الشعب المصرى الساعى لتحرره وبناء دولته الحديثة الدستورية العصرية التى يتخلص فيها من النفوذ الأجنبى ومن التبعية للدولة العثمانية، والمشروع الاستعمارى الغربى عموما والبريطانى بوجه خاص للسيطرة على مصر كنقطة ارتكاز على طريق الأمبراطورية البريطانية فى الشرق ومصدر للمواد الخام وسوق أمام الرأسمالية البريطانية القوية.
كانت البداية لبريطانيا مع الحملة الفرنسية التى نبهتها إلى ضرورة السيطرة على هذا البلد كمفتاح للشرق، وتوالت محاولتها لاحتلال البلاد عسكريا، لكنها انتهت إلى الفشل، إلا أن فشل الحملة الفرنسية ومن بعدها الحملات العسكرية البريطانية لم يمنع النفوذ الاقتصادى الأوروبى من التوغل داخل البلاد والسعى للسيطرة على اقتصادها، خاصة بعد أن غرقت مصر فى الديون فى عصر إسماعيل.
وكانت البداية بالنسبة للمصريين مع ثورتهم فى يوليو 1795 ضد طغيان إبراهيم بك ومراد بك كبيرى المماليك آنذاك، ثم انضجتهم تجربة مقاومة الحملة الفرنسية على مدى ثلاث سنوات، أعقبها نضال متواصل استمر لسنوات ضد الباشاوات العثمانيين، إلى أن نجح المصريون فى تغيير مسار تاريخهم فى ثورة مايو 1805 التى أتت بقائد العسكر محمد على باشا حاكما على البلاد فانقض على الثوار وتخلص منهم. ومع ذلك تجمعت خلال القرن التاسع عشر أسباب صياغة مشروع النهضة المصرية، ذلك المشروع الذى وصل إلى قمته مع الثورة العرابية؛ فما حكاية هذه الثورة وكيف قامت؟
لقد تضافرت جهود رواد النهضة الفكرية، وعلى رأسهم رفاعة الطهطاوى مع طموحات محمد على وخلفائه فى الاستقلال عن الدولة العثمانية، وتواكب ذلك مع تغيرات اجتماعية مهمة تمثلت فى تشكل طبقة جديدة من ملاك الأراضى الزراعية المصريين أو الأعيان بلغة ذلك العصر تعارضت مصالحهم مع السعى الأوروبى للهيمنة على مصر، وظهور قاعدة بيروقراطية تكنوقراطية من المتعلمين فى المدارس العليا التى أنشئت فى عصر محمد على شكلت نواة لتمصير جهاز الدولة الذى سيطر عليه الأتراك والجراكسة لسنوات، كذلك شهد جيش مصر تغييرا واضحا فى تركيبه بعد انخرط فيه المصريون كضباط وليس كجنود فقط، فبدأ الصدام بينهم وبين الضباط الأتراك والجراكسة.
لقد أصبحت هناك أسس واضحة لمشروع متكامل لبناء مصر جديدة، وظهر بوضوح مفهوم الأمة الذى يقوم على أساس المواطنة بغض النظر عن اختلاف الدين، وكانت اللائحة الوطنية عام 1879 التعبير السياسى عن تلك النهضة الجديدة التى عمت البلاد، وبلغت ذروتها فى أواخر أيام الخديو إسماعيل؛ ففى السنوات الأخيرة من حكمه تصاعد الوعى الوطنى، واستفز التدخل الأوروبى فى شئون مصر المشاعر الوطنية، خاصة بعد أن أعد السير ريفرز ويلسون الوزير البريطانى فى الحكومة المصرية مشروعا لإعلان إفلاس مصر، وكان عجز الحكومة عن مواجهة الموقف دافعا لمجموعة من الوطنيين المصريين لعقد عدة اجتماعات أسفرت عن إصدار «اللائحة الوطنية» التى تعتبر واحدة من أهم الوثائق السياسية فى تاريخ مصر الحديث، وتضمنت اللائحة مشروعا لإنقاذ مصر من أزمة الديون وانهاء التدخل الأجنبى فى شئون البلاد.
وقد تم تصدير اللائحة بإعلان وقع عليه أكثر من أربعين من قادة الرأى فى مصر فى ذلك الوقت، كان من بينهم بعض رجال الخديو إسماعيل المقربين، الأمر الذى فسره البعض على أنه تأييد من إسماعيل للاتجاه الداعى إلى إرساء قواعد النظام النيابى فى مصر كمحاولة للتخلص من النفوذ الأجنبى، وقد سارع إسماعيل بالفعل بقبول اللائحة الوطنية فى تحدٍ واضح للدول الأوروبية انتهى بعزله فى صيف عام 1879.
خلاصة القول كانت مصر فى سبعينيات القرن التاسع عشر وأوائل ثمانينياته بلدا يموج بالصراع والحركة؛ فالقوى الوطنية الساعية إلى تحقيق نظام نيابى دستورى وإنهاء التدخل الأجنبى وصلت إلى أوجها، والمؤمرات الدولية تحاك من أجل السيطرة على مصر، وتنجح فى أن تعزل الحاكم الشرعى للبلاد الخديو إسماعيل من منصبه عندما بدأ يتجاوب مع مطالب القوى الوطنية، ويتم تعيين ابنه توفيق مكانه فيحارب الوطنيين ويتجاوب مع المطامع الأوروبية فى السيطرة على البلاد.
فى الأشهر الأولى لحكم توفيق تم الانقلاب على مشروع الدولة الدستورية، فتصاعدت المعارضة الوطنية، وظهر فى الساحة المصرية تجمعان سياسيان هما البداية الحقيقية للأحزاب فى مصر، جماعة حلوان التى عرفت بالحزب الوطنى، وجمعية مصر الفتاة بالإسكندرية، قاد عملية المعارضة والتوعية السياسية للشعب، وانخرط عدد من ضباط الجيش فى هذه الحركة السياسية، وكان على رأسهم الضابط أحمد عرابى.
فى الأسابيع الأولى من عام 1881 بدأ تذمر الضباط المصريين فى الجيش يتصاعد من أجل إصلاح أحوال الجيش وضد هيمنة الأتراك والجراكسة، وخلال أشهر قليلة كانت المطالب الفئوية للضباط تتشابك مع المطالب السياسية العامة للحركة الوطنية، ولخص أحمد عرابى فى عبارة وجيزة مطالب الحركة الوطنية بقوله: «إننا لا نريد إلا الإصلاح وإقامة العدل على قاعدة الحرية والإخاء والمساواة، وذلك لا يتم إلا بإنشاء مجلس النواب وإيجاده فعلا».
مع نهاية صيف 1881 كانت مطالب الضباط الوطنيين قد تجاوزت حدود إصلاح أمور الجيش إلى المطالبة مع كل الوطنيين المصريين بإصلاح أمور الوطن، فبدأ الخديو توفيق يخطط لإجهاض حركة الضباط، فانتبه عرابى وزملاؤه إلى مؤامرات الخديو، وعقدوا العزم على أخذ زمام المبادرة بأيديهم، فكانت مظاهرة عابدين يوم 9 سبتمبر سنة 1881، التى تحرك فيها عرابى على رأس فرق الجيش المرابطة فى القاهرة، وانضم المدنيون إلى المظاهرة العسكرية فى مسيرتها لمحاصرة قصر عابدين، ورفع عرابى مطالب الأمة إلى الخديو، وتلخصت هذه المطالب فى إسقاط الوزارة وتأليف حكومة وطنية وعودة الحياة النيابية وزيادة عدد الجيش المصرى، يومها كان «الجيش والشعب إيد واحدة» حقا.
فشل الخديو فى التصدى للمظاهرة واضطر مرغما لقبول جميع المطالب الوطنية، ورغم نجاح الثورة العرابية فى تلك المرحلة فإن مؤامرات الخديو وأعوانه من ناحية، وخيانة البعض من داخل معسكر الثورة من ناحية ثانية، ومؤامرات الدول الأوروبية من ناحية ثالثة، ثم سوء إدارة الثوار للأزمة من ناحية أخيرة أدت فى النهاية إلى هزيمة الثورة العرابية، وانكسار مشروع النهضة مرة أخرى.
لقد اصطدمت الثورة العرابية بالأطماع الأوروبية التى كانت أقوى من قدرات العرابيين على مواجهتها فانتهى الأمر إلى الهزيمة المريرة فى موقعة التل الكبير، ودخول توفيق إلى القاهرة تحت حماية البنادق البريطانية، ودخول مصر فى نفق الاحتلال المظلم لسنوات.