أرجو أن يسمح لى القارئ بأن أتكلم من جديد عن ذلك الكاتب الأثير لدىَّ (جورج أورويل)، والذى أعود إلى تذكره فى الملمات والمحن. لقد قرأت روايته الشهيرة (1984) لأول مرة فى أعقاب محنة 1967، وكتبت عنها حينئذ، ثم عدت إلى قراءتها والكتابة عنها فى أعقاب غزو صدام حسين للكويت، ثم فى أعقاب اتهام المسلمين بتفجير البرجين الشهيرين فى نيويورك فى 11 سبتمبر 2001، من بين كوارث كثيرة ألمت بالعرب والمسلمين. ولكن رواية (1984) ليست هى ما أعود الآن إلى قراءته من كتابات أورويل، (فقد كدت أحفظ أحداثها عن ظهر قلب) بل كثيرا ما أعود إلى القراءة فى المجلدات الأربعة (التى نشرتها مؤسسة بنجوين)، وتحتوى على مجموع مقالاته وتعليقاته الصحفية وخطاباته، فأجد فيها دائما ما يشحذ الفكر ويعزى القلب.
أورويل توفى فى 1950، أى منذ أكثر من ستين عاما، وعمره لا يتجاوز 47 عاما، ولكنه كان حاد البصر، نافذ البصيرة، استطاع أن يرى ما يمكن ان يحدث فى المستقبل بوضوح أكبر مما رآه غيره. وكان يستفزه بوجه خاص شيوع الكذب فى تصريحات وخطب السياسيين والزعماء، وخداعهم المستمر لشعوبهم، واستدراجهم لحروب يُدعى أنها تحقق مصلحة عامة وهى فى الحقيقة لتحقيق الأرباح أو لإشباع نهم مريض للسيطرة. كما كان يستفزه الاستخدام المضلل للغة، فالحرب تسمى سلاما، والكذب يسمى حقيقة، والظلم يسمى عدلا، وتأييد الديكتاتورية يسمى انتصارا للديمقراطية..الخ.
ها أنذا أسأل نفسى الآن ما الذى كان يمكن ان يقوله جورج أورويل لو كان قد رأى ما نسميه الآن «الربيع العربى»؟ أنا شخصيا لا أرى فيه أى ربيع على الإطلاق، (بل ولا أرى بوادر الربيع آتية). وما الذى كان يمكن أن يقوله أورويل فى الخطاب الدينى الذى استخدمه الإخوان المسلمون فى فترة حكمهم خلال العام الماضى فى مصر، وفى استغلال زعمائهم لعامة الناس من المتدينين؟ وما الذى يمكن ان يقوله فى مقتل أكثر من ألف شخص من الأبرياء فى سوريا، وتبادل الاتهامات بين جانبين، جانب يسمى بالثوار ضد حكم ظالم وفاسد، ولكنهم ممولون من دول عربية بعضها لا يقل ظلما وفسادا، والحكم الظالم والفاسد يدعى أنه يحمى الأمة العربية من إسرائيل والاستعمار الأمريكى، دون ان يصنع شيئا يؤيد هذا الادعاء. والحقيقة انها حرب بين دولتين كبيرتين لا تريد أى منهما لا مصلحة الثوار ولا حماية الأمة العربية من أى استعمار.. ولكننا لا نعرف ما الذى تريده كل منهما بالضبط؟
●●●
أثناء هذه الحرب الأهلية فى سوريا، التى قارب عمرها ثلاث سنوات، حدثت فى مصر ثورتان، فى 25 يناير 2011 ثم فى 30 يونيو 2013، وأسقط خلالهما رئيسان، حسنى مبارك ومحمد مرسى، ولكن المدهش، أن أيا من الثورتين لم تجلب إلى الحكم أى فريق من الثوار. فالثورة الأولى جلبت إلى الحكم مجلسا عسكريا كان رئيسه وزيرا وقائدا للجيش لمدة طويلة فى عهد الرئيس المعزول، وجلبت رئيسين للوزراء كانا قد اعتليا أيضا مناصب مهمة فى ذلك العهد الذى قامت الثورة ضده. وفى الثورة الثانية لم نر من بين المسئولين الجدد من اشترك فى الثورة الأولى أو الثانية باستثناء وزيرين أو ثلاثة لا يبدو أنهم هم الذين يتخذون القرارات الحاسمة. فهل هذه هى طبيعة ثورات آخر زمن؟ بعكس الثورات السابقة، كالفرنسية أو الروسية أو حتى ثورة 1952 فى مصر، حيث كان الذين قاموا بالثورة هم الذين يتولون الحكم بعدها؟
ثم ما هذا الكلام الكثير عن ضرورة التوافق والتصالح وعدم الاقصاء، أى عدم استبعاد أى فريق من دوائر صنع القرارات السياسية أو وضع الدستور؟ أى ثورة هذه التى لا تقوم بمجرد نجاحها بإقصاء أعدائها الذين قامت الثورة لاستبعادهم؟ هل نحن بصدد ثورة أم عرس يقوم الجميع فيه باحتضان الجميع وتقبيلهم؟ أنا لا أعنى بالإقصاء القتل أو السجن، بل مجرد الاستبعاد من الحكم ومن وضع قواعد السير فى المستقبل. وإلا فلماذا ثار الناس أصلا؟ ولكن انظر ما حدث فى أعقاب الثورتين. فى أعقاب ثورة يناير رأينا محاكمات هزلية (مازالت مستمرة حتى الآن وإن كانت قد تباطأت خطواتها) وتقاعسا مذهلا عن استرداد الأموال المنهوبة والمهربة، وكأن النظام الذى قامت الثورة ضده لم يسرق ولم يهرب. وفى أعقاب ثورة يونيو مازلنا نرى حرصا مدهشا على عدم إغضاب السلفيين، فيجرى التوسل إليهم أو إشراكهم فى عملية اختيار الحكام الجدد وفى لجنة وضع الدستور الجديد. ثم يجرى انتخاب رئيس للجنة وضع هذا الدستور كان وزيرا مهما لمدة طويلة فى ظل الحكم الذى قامت ثورة 25 يناير ضده.
وفى ظل غياب الثوار عن أماكن اتخاذ القرارات الأساسية، ما الذى يمكن أن ننتظر أن نراه فى الدستور الجديد؟ نعم، ان لجنة الخمسين تضم بعضا من أفضل الناس فى مصر، ولكن ماذا يستطيع هؤلاء عمله فى لجنة تضم مختلف الاتجاهات والمشارب، المؤيدين للثورة والمعارضين لها، والذين يشعرون بالخجل من تأييدها ومن معارضتها على السواء، وبعدما يقرب من ثلاث سنوات لم تتح خلالها أى فرصة لأصحاب الثورة لبلورة الأفكار وتحديد الأهداف تحديدا واضحا، بسبب استبعادهم من الاشتراك فى الحكم، والاكتفاء بدعوتهم لجلسات «حوار»، لا يجرى خلالها أى حوار جاد، بل تلتقط لهم فيها الصور.
●●●
أثناء هذا كله، ما حقيقة العلاقة بيننا وبين الولايات المتحدة الأمريكية؟ السؤال مهم لأن هذه العلاقة هى التى أفسدت التطور السياسى والاقتصادى المصرى خلال العهد الذى قامت ضده ثورة 25 يناير. فإذا لم تتغير طبيعة هذه العلاقة فأى أمل لدينا فى أن نحصل على تصحيح لمسارنا السياسى والاقتصادى؟ خلال فترة العام ونصف العام التى انقضت بين ثورة 25 يناير واعتلاء الدكتور مرسى كرسى الرئاسة، ظلت هذه العلاقة غامضة وملتبسة ولم يبد لنا منها إلا إصرار من جانب الإدارة الأمريكية على مجئ الإخوان إلى الحكم. وخلال السنة التى حكم فيها الإخوان تبين لنا أن مسارنا السياسى والاقتصادى يمكن أن يكون أسوأ حتى مما كان فى عهد مبارك، على الأقل فيما يتعلق بتنفيذ الرغبات الأمريكية والإسرائيلية. وها نحن فى أعقاب الثورة على حكم الإخوان، أى فى أعقاب 30 يونيو، لا نعرف بالضبط مصير العلاقة بين مصر والولايات المتحدة، وليس أمامنا إلا التخمين ورجاء السلامة. إن قيام الإدارة الأمريكية بالتهديد بضرب سوريا يثير الخوف من أن تكون الولايات المتحدة مازالت مصممة على تنفيذ مخططها لإعادة ترتيب المنطقة العربية لصالحها وصالح إسرائيل، ولكن تراجعها عن هذا التهديد، بعد أن رأت مقاومة شديدة من جانب روسيا وتقاعسا من جانب حلفائها، يجعلنا نأمل فى أن يتعثر تنفيذ هذا المخطط. ولكن ما هو موقف حكومتنا الحالية بالضبط، وموقف نظامنا الجديد الذى جاء فى أعقاب ٣٠ يونيو؟ هل هو موقف ثورى حقا يحقق آمال الناس الذين قاموا بثورتى يناير ويونيو؟ إن العودة إلى قراءة أورويل لا تمدنا بالطبع بإجابات على هذه الأسئلة، ولكنها تجعلنى أشعر على الأقل بأننى استمع إلى صديق كان يدرك بوضوح طبيعة العالم الجديد الذى دخلنا فيه، وما ينطوى عليه من أكاذيب.