أحداث ماسبيرو.. وخيانة المثقفين - صبرى حافظ - بوابة الشروق
الثلاثاء 25 فبراير 2025 10:34 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تتوقع نجاح اتفاق الهدنة في غزة؟

أحداث ماسبيرو.. وخيانة المثقفين

نشر فى : الجمعة 14 أكتوبر 2011 - 11:10 ص | آخر تحديث : الجمعة 14 أكتوبر 2011 - 11:10 ص

فكرت فى أن أغير موضوع هذا المقال، وأن اكتب عن تلك الكارثة التى جرت يوم 9 أكتوبر أمام مبنى التليفزيون فى ماسبيرو وراح ضحيتها 24 قتيلا وأكثر من مائتى جريح. ولكنى وجدت أن أى حديث عن تدهور حال مصر وما يهددها من مخاطر لا ينفصل بأى حال من الأحوال عما كنت بصدد الحديث عنه وهو خيانة المثقفين، وتخليهم عن دورهم الطبيعى فى حراسة القيم الوطنية والأخلاقية، وتحوّل الكثيرين منهم إلى كلاب لحراسة نظام سقط وما زال الكثيرون منهم يتشبثون بدورهم فيه. صحيح أننى على وعى من خلال قراءاتى فى الصحافة الغربية بأن هناك قوى خارجية تعمل ضد الثورة المصرية (من الولايات المتحدة الأمريكية إلى ذراعى سياستها البشعة فى المنطقة: السعودية ودولة الاستيطان الصهيونى، فقد فقدوا جميعهم وليس الصهاينة وحدهم ذخرهم الاستراتيجى بالمنطقة) ولا تريد لمصر أن تنهض من تلك الهاوية التى زجت بها فيها سياسات الانحطاط والتردى على مد العقود الأربعة الماضية. لأن أى نهضة لمصر تشكل خطرا على مصالح تلك القوى، وتنال من مكانتها فى المنطقة وفى العالم والتى لا سبيل لدوامهما إلا ببقاء مصر فى تلك الهاوية السحيقة.

 

فلو لم تعانِ مصر من خيانة أعداد كبيرة من مثقفيها وتخليهم عن دورهم الثقافى، وتحولهم إلى خدّام للمؤسسة وكلاب حراسة لنظام الاستبداد الذى أسقطته الثورة، لاستطاع هؤلاء المثقفين حماية الثورة وبلورة خطاب ثورى حقيقى يحمى مطالبها، ويرهف وعى الجماهير بها، وينبههم لكل مؤامرات الثورة المضادة فى الداخل والخارج. أقول إنه لو لم تنكب مصر بهؤلاء المثقفين الذين أداروا حقبة مبارك الثقافية، ودخلوا حظيرة نظامه الفاسدة، لما وقع ما وقع يوم 9 أكتوبر فى ماسبيرو. لأن الأمم فى لحظات التحول الكبيرة، كاللحظة التى تمر بها مصر بعد ثورتها المتحضرة النبيلة، تكون عادة فى أمس الحاجة إلى مثقفيها كى يرودوا خطواتها نحو المستقبل. ولكى يلعبوا دورا فى ترقية وعى الشعب الذى كانت ممارساته أثناء أيام الثورة أشد رقيا وأعمق وعيا وبصيرة، وأكثر نبلا وتقدما من كل خطابات مثقفى الحظيرة الملتوية والزائفة. تحتاج مصر إلى مثقفين لا يقلون نبلا ونقاء عن الثورة ذاتها، كى يلعبوا دورهم فى تبصير الشعب بما يحاك له وما تتعرض له ثورته من أخطار.

 

لكن مصر نكبت بخيانة مثقفيها مرتين: كانت المرة الأولى حينما دخل هؤلاء المثقفون حظيرة النظام الفاسد، وتحولوا بوعى أو بدون وعى إلى أدوات تجميل وجهه القبيح، وصناع خطابه الذى يسيطر به على مصر، ويموه به على عقل بنيها، كى يزج بها أكثر فى مهاوى التردى والتبعية والهوان، ويحولها إلى الذخر الاستراتيجى لعدوها الصهيونى من ناحية، ولاعب ثانوى فى الحقبة السعودية الكئيبة من ناحية أخرى. فلا يمكن أن نتصور استمرار حقبة الانحطاط الذى عاشته مصر طوال العقود الأربعة، ومنذ انفتاح السادات «السداح مداح» وزيارته المشئومة للقدس وما تبعها من انتصار الهزيمة ورفع العلم الصهيونى فى سماء القاهرة، وحتى ثورة 25 يناير، دون تبرير المثقفين الزائف لهذا التردى، وتسويقهم الدءوب له. بدءا من عراب التطبيع الأول فى عهد السادات أنيس منصور فى ذلك الزمن البعيد، ووصولا إلى آخر من أراد أن يدخل غثاء العدو الصهيونى إلى الحياة الثقافية، ويعوّدها على متابعة أخباره، بفرض صفحة لثقافته العنصرية على المطبوعة الأدبية الأسبوعية الوحيدة فى مصر(أخبار الأدب)، وليس انتهاء بجابر عصفور عراب إدخال المثقفين، لا المصريين وحدهم وإنما العرب أيضا، لحظيرة نظام مبارك المخلوع، ووزيره الفنان. وكلهم وكثيرون من أضرابهم لا يزالون أعضاء فى المجلس الأعلى للثقافة وبعد تسعة أشهر من هذه الثورة المجيدة لم يقدم واحد منهم استقالته، ولم يعلن أى منهم الندم على خيانته.

 

وبدلا من أن يثوب هؤلاء المثقفون الذين خانوا أمانة الثقافة وشرف الكلمة إلى رشدهم، ويتواروا بخجلهم عن الأنظار بعد الثورة، ويفسحوا المكان لمن همشوهم طوال عقود، ولمن عانوا من عسف نظام مبارك المنحط، إذا بهم ينقضون على ثورة مصر النبيلة الناصعة، ويشبعونها نفاقا وتدليسا. وهذه هى نكبة مصر الثانية بهم. لأن محاولة هؤلاء المثقفين الخونة للتلون وتبديل جلودهم، بعدما انفقوا جل مسيرتهم فى خدمة نظام مبارك الساقط، واستمتعوا بخيراته وعطاياه، والزعم بأنهم قد بشروا بالثورة، وأنهم حريصون عليها ويرومون حماية مستقبلها، وتصدر وجوههم الكالحة لجلسات البحث وبرامج الجدل التليفزيونية هى أكثر ما يضر هذه الثورة ويشوش بوصلتها.

 

أقول إن نفاق هؤلاء المثقفين للثورة لا يعبر بأى حال من الأحوال عن أى نوع من التوبة عن خيانتهم لأمانة الثقافة من قبل، وإنما يؤكد استمرارهم فى مسيرة الخيانة والعمل ضد أى خلاص من أوحال الماضى الذين كانوا أعلامه. فاستمرارهم فى التشبث بمواقعهم، وتغيير خطاباتهم الفاسدة من تبرير الاستبداد والتوريث، إلى التشدق الآن بخطاب زائف يزعم أنه مع الثورة، هو من الأمور التى تشوش على الثورة وتحول دون بلورتها لخطابها الناصع البرىء من لغط كلاب الحراسة ونفاقهم. لأنهم بذلك يحولون الثورة إلى ثرثرة فارغة تطرد به العملة الرديئة العملة الجيدة من السوق، وتحول دون تبلور خطاب نظيف يعبر عن الثورة النبيلة ويبلور رؤاها ويحدد خطوات مسيرتها. فماذا يقول جوليان بيندا فى كتابه (خيانة المثقفين) عنهم؟ هذا ما سأفصل الحديث عنه فى الأسبوع القادم.

صبرى حافظ ناقد أدبي مصري مرموق، وأستاذ الأدب الحديث والمقارن بجامعة لندن. درّس في كبريات الجامعات الغربية. وله العديد من الكتب والأبحاث بالعربية والانجليزية، فاز أحدث كتبه بالانجليزية (السعي لصياغة الهويات) بجائزة (اختيار) الأمريكية لأهم الدراسات الأكاديمية لعام 2009.
التعليقات