بعد شهرين أو ثلاثة من سقوط الرئيس السابق حسنى مبارك، تلقيت دعوة من السفيرة الأمريكية السابقة فى مصر «السيدة سكوبى»، لحفل عشاء يقام على شرف جون كيرى، رئيس لجنة الشئون الخارجية بالكونجرس الأمريكى.
أعتقد أن سبب الدعوة أنه كان قد نُشر لى كتاب بعنوان «ماذا حدث للمصريين؟»، بالعربية والانجليزية، وأن الضيف الأمريكى جاء لأسباب، من بينها التعرف على رأى بعض المصريين فيما يحدث، وأن السفيرة الأمريكية اعتبرت أنه قد يكون لدىّ من الملاحظات ما قد يهم الضيف أن يسمعه. وأيّد هذا التفسير أنى وجدت معظم المصريين المدعوين لهذا الحفل «نحو اثنى عشر شخصا» ينطبق عليهم نفس الوصف.
جلسنا جميعا للعشاء حول مائدة كبيرة اتسعت لنحو عشرين شخصا، وكان الآخرون، عدا السفيرة والضيف، من الأمريكيين المشتغلين بالسفارة، وكان بعضهم يدوّن ما يدور من حوار.
فى أثناء الحوار جاء ذكر الإخوان المسلمين، ولم يكونوا قد بدأوا يلعبون الدور الذى لعبوه فيما بعد فى أحداث الثورة. لا أذكر ما قاله الضيف فى البداية، ولكن ما قاله جعلنى أطلب الكلمة، وقلت إن الإخوان المسلمين يتمتعون بفرصة لا يتمتع بمثلها الأطراف الأخرى فى الحياة السياسية المصرية لسببين لا فضل لهم فيهما.
الأول أن الشعب المصرى بطبيعته شعب متدين يستجيب بسهولة لأى شخص يمزج خطابه السياسى بشعارات دينية بصرف النظر عن محتوى الخطاب، والسبب الثانى ما تعرض له المصريون خلال الثلاثين عاما الماضية من مصاعب اقتصادية شديدة أصابت شرائح كبيرة من الشعب المصرى بهموم ثقيلة ومتزايدة، لم يجدوا إزاءها عزاء أو راحة إلا فى المزيد من التعبّد.
لفت نظرى عندما قلت هذا الكلام، التغير الذى طرأ على تعبير وجه السناتور كيرى. كان من الواضح لى أنه لم يسرّه ما قلت، وكأنه كان يرجو أن يسمع عكس هذا الكلام. قلت لنفسى: «هل يا ترى ساءه أن يسمع كلاما عن هموم مصر الاقتصادية المتزايدة خلال الثلاثين عاما الماضية، وهى السنوات التى حظى فيها حسنى مبارك بتزييد ودعم كاملين من الولايات المتحدة؟».
عندما سمعت إجابته رجحت وجود سبب آخر، فقد تضمنت إجابته دفاعا عن الإخوان المسلمين، قال فيه إنهم الوحيدون فى مصر الذين مضى على اشتغالهم بالعمل السياسى المنظم أكثر من ثمانين عاما.
كانت هذه الإجابة تدل على أن الرجل بذل جهدا مشكورا فى دراسة التاريخ السياسى المصرى، الحديث على الأقل، ولكنها أثارت فى نفسى تساؤلا أكثر أهمية، عن احتمال أن تكون الإدارة الأمريكية الحالية راغبة فى أن يصل الإخوان المسلمون إلى حكم مصر، بل وعما إذا كان من الممكن أن تبذل الإدارة الأمريكية الجهد اللازم لتحقيق هذا الهدف.
تصادف بعد شهور قليلة، عندما جاء الرئيس الأمريكى السابق كارتر فى وفد لمراقبة الانتخابات البرلمانية المصرية، وطلب الالتقاء ببعض الأحزاب المصرية، أن طلب منى حزب الدستور أن أكون واحدا من عدد قليل من المصريين الذين يقابلونه للتعبير عن رأى هذا الحزب، فإذا بى لدى الاستماع إلى كلام كارتر، أجد فيه ما يدل على تعاطف مع الإخوان المسلمين، مماثل لما وجدته عند جون كيرى.
•••
لم يبد لى من المستبعد أن يكون هذا هو موقف الإدارة الأمريكية الحالية. نعم، نحن نعرف التعارض الواضح بين تأييد الأمريكيين للإخوان، وبين ما دأب عليه الخطاب السياسى الأمريكى من هجوم على التطرف الدينى، وتحميله المسئولية عن مختلف الجرائم التى تحدث فى داخل الولايات المتحدة أو خارجها. ولكننا نعرف أيضا أن الخطاب السياسى شىء والحقيقة شىء آخر.
فما أكثر مثلا ما تغنى الخطاب السياسى الأمريكى بالديمقراطية وندّد بالدكتاتورية، فى الوقت الذى كانت الحكومة الأمريكية تدعم بمختلف الوسائل حكومات مفرطة فى الاستبداد والقسوة فى معاملة شعوبها فى مختلف أنحاء الكرة الأرضية، أما عن التطرف الدينى بالذات، فقد قدمت له الحكومة الأمريكية الدعم كلما كان هذا يخدم مصالحها، كما حدث فى أفغانستان من أجل طرد السوفييت منها، وفى تأييدها لحركة الشيشان لإضعاف الاتحاد السوفييتى وإسقاطه، بل وفى تأييدها ومساعدتها لحرة الإمام الخمينى للوصول إلى الحكم فى إيران بدوافع أقل وضوحا.
لا عبرة إذن بما يلقى على الملأ من خطب وتصريحات رسمية، بل العبرة بالمصالح المطلوب تحقيقها. والمصالح تتغير بمرور الزمن، وتغير المصالح قد يحول الحليف القديم إلى عبء يحسن التخلص منه، «مثلما حدث مع حسنى مبارك»، وقد يحول الخصم القديم إلى حليف محتمل. فهل هذا التحول الأخير هو ما حدث فى علاقة الولايات المتحدة بالإخوان المسلمين فى مصر؟
سؤال مهم جدا لنا الآن، ولكن الإجابة عنه صعبة، ولابد فيها من التخمين، لأن المعلومات المتاحة مما قد يساعد على الوصول إلى إجابة مرضية شحيحة للغاية، والمعلومات التى يجرى إخفاؤها عمدا لابد أنها كثيرة جدا.
•••
نحن لا نحتاج طبعا إلى أى تخمين، ولا إلى أى دلائل جديدة لإثبات أن الولايات المتحدة يهمها بشدة (على الأقل منذ نهاية الحرب العالمية الثانية) نوع النظام الذى يحكم مصر، ومن ثم فهى مستعدة لبذل الجهد والمال اللازمين لإيجاد النظام الملائم لها، وتغيير النظام غير الملائم. ومن ناحية أخرى يجب ألا نشك فى أن قادة الإخوان المسلمين لديهم الحنكة السياسية الكافية لإدراك الحقيقة السابقة، ومن ثم لإدراك أن مصيرهم السياسى يتوقف إلى حد كبير، ليس فقط على موقف النظام المصرى منهم، ولكن أيضا على رؤية الإدارة الأمريكية لهم، ومدى ثقتها فى قدرتهم واستعدادهم لتحقيق مصالحها. هنا أيضا يمكن تنحية المبادئ جانبا (ولو إلى حين).
فجماعة الإخوان المسلمين، شأنها شأن أى حزب سياسى اشتغل طويلا بالسياسة، تعرف جيدا أنه فى السياسة، «ليس بالمبادئ وحدها يحيا الإنسان»، وأنه فى العمل السياسى «الغاية تبرر الوسيلة»، حتى وإن بدا ذلك شيئا منافيا للفضيلة التى تدعوهم إليها مبادئهم.
التفاهم والتعاون إذن أمر مطلوب من الإدارة الأمريكية والإخوان، وقد شهدنا منذ قامت ثورة 25 يناير 2011، أمثلة كثيرة (بعضها مدعم بالصوت والصورة) على لقاءات حميمة بين شخصيات مهمة من الطرفين، خاصة عندما تتأزم الأمور، وتظهر مخاطر جديدة تهدد أحد الطرفين بالفشل. من بين هذه الأمثلة الحديثة نسبيا، التدخل العاجل من جانب الرئيس الأمريكى لدى المجلس العسكرى الذى كان يحكم مصر فى أثناء انتخابات الرئاسة، متضمنا تحذيرا من التدخل لصالح منافس المرشح الإخوانى، ومن ثم فوز هذا المرشح برئاسة الجمهورية بفارق بسيط جدا على منافسه، ثم ذلك الاهتمام البالغ من جانب الإدارة الأمريكية بالأزمة الراهنة فى مصر، التى أعقبت إصدار رئيس الجمهورية لإعلان دستورى فى نوفمبر الماضى أشعل نار الغضب إلى درجة هددت استمرار جماعة الإخوان فى الحكم. هنا رأينا سفريات عاجلة لشخصيات مهمة للغاية من جماعة الإخوان من مصر إلى واشنطن، ومن الإدارة الأمريكية من واشنطن إلى مصر. لم يخبرنا أحد بالطبع بما دار فى هذه الاجتماعات المهمة بلا شك، فليس أمامنا كالعادة إلا التخمين.
فالشىء الوحيد الأسوأ من الوصول إلى تخمينات خاطئة، فى مثل هذه الأحوال، هذا الامتناع عن أى تخمين وتصديق ما يقال علنا على الملأ بحجة أن التخمين هو نوع من الاعتقاد فى «نظرية المؤامرة».
دعنا إذن نسمح لأنفسنا بتخمين ما الذى يمكن أن يكون عليه تفكير الإدارة الأمريكية الآن مما يجعل التعاون بينها وبين الإخوان المسلمين مفيدا للطرفين. إنى لا أميل كثيرا للقول بأنه ما يجذب الإدارة الأميريكية إلى الإخوان استعدادهم لقبول نظام السوق والحرية الاقتصادية.
فالذين لديهم هذا الاستعداد فى مصر كثيرون، من الإخوان وغير الإخوان. دعنا أيضا ننحى جانبا الكلام عن حرص الولايات المتحدة أن يسود فى مصر (أو فى أى بلد آخر) نظام ديمقراطى، وأن مجىء الإخوان للحكم فى مصر هو تحقيق لهذا الهدف. فالأدلة التاريخية كثيرة، كما سبق أن ذكرت، على استعداد الولايات المتحدة، عن طيب خاطر، للتضحية بالديمقراطية إذا استدعت مصالحها ذلك. ولكن ماذا عن احتمال أن يكون للولايات المتحدة فى الوقت الحاضر مصلحة فى أن يتسلم الحكم فى مصر نظام تتوافر له قدرة تنظيمية عالية تسمح بتعبئة أعداد كبيرة من الناس لتأييد قرارات معينة قد تبدو لأعداد كبيرة من المصريين غير وطنية، هل المقصود إيجاد فتنة بين المذاهب الدينية المختلفة فى المنطقة، وعلى الأخص بين السنة والشيعة، تمهيدا لضرب إيران؟
هل المقصود إجراءات تُجرى ترتيبات جديدة فى سيناء على حساب المصريين؟ أو إجراءات إسرائيلية تنطوى على تدهور آخر فى القضية الفلسطينية على الرغم من المكسب الشكلى الأخير الذى حققته السلطة الفلسطينية فى الأمم المتحدة؟ أم مزيد من تفتيت العرب إلى دويلات صغيرة ترفع شعارات دينية بدلا من الشعارات الوطنية أو القومية، مما يخدم أيضا الهدف الصهيونى بإعلان إسرائيل دولة يهودية خالية من المسلمين؟ قد يكون الهدف هو هذا أو ذاك، أو حتى ما هو أسوأ من هذا وذاك، مما لم يتطرق إليه بعد خيالنا القاصر. على أى حال، يبدو لى أن التفكير الجدى فى هذه الأمور، حتى وإن افتقد إلى الأدلة القاطعة، واعتمد فقط على المنطق وتضمن قدرا كبيرا من التخمين، قد لا يقل أهمية عن مناقشة هذه المادة أو تلك من مواد مشروع الدستور الجديد.