بعد ساعات قليلة من انهيار النظام البعثى فى سوريا بقيادة بشار الأسد وتأكد هروب الأخير وعائلته إلى روسيا مع دخول قوات الفصائل المسلحة إلى دمشق بقيادة هيئة تحرير الشام، انبرت بعض الأقلام لتعبر عن قلقها من انهيار الدولة الوطنية/القومية فى سوريا مع احتمالات تقسيم الأراضى السورية بين الفصائل المسلحة على خطوط الهوية أو القبلية أو الإثنية، أو حتى على خطوط توازنات القوى فيحصل الطرف صاحب السلاح الأقوى والتكتيكات العسكرية الأفضل على مزيد من الأراضى، بينما تتراجع مساحة سيطرة الفصائل الأخرى وهكذا!
كذلك فقد كان الحديث فقدالعديد من القنوات الإخبارية العربية عن التخوف من دخول سوريا فى براثن الحرب الأهلية مرة أخرى، أو أن تشهد تجربة مؤلمة كتلك التى شهدتها وقت سيطرة داعش، فتتحول سوريا إلى العصور الوسطى، وتفقد البلاد - التى لطالما تمتعت بحضارة مزدهرة وإنتاج علمى وأدبى وفنى رفيع - زهوتها وتنهب آثارها ومتاحفها على غرار ما حدث فى العراق أو فى أفغانستان!
• • •
فى الحقيقة، مثل هذه التخوفات لها ما يبررها، فتاريخ هيئة تحرير الشام وتحالفاتها قبل ٢٠٢٠ تؤشر على عدم إيمان الهيئة بالدولة الوطنية الحديثة من أرض وشعب وحدود وسيادة، كما أن هذه الخبرة السابقة توضح أن الهيئة ليست حزبا سياسيا بالمعنى التقليدى، وليس لديها أى مشروع سياسى متكامل ولا حتى مجرد رؤية سياسية، ولكنها جماعة من المقاتلين الذى يجتمعون على أهداف وشعارات الشريعة والدولة الإسلامية الفضفاضة، وليس لديهم أى تصور عن مفاهيم أخرى مثل التنمية والتحديث ناهينا طبعا عن مفاهيم مثل الديموقراطية ودولة القانون والمواطنة... إلخ.
بشكل عام، فلا يمكن لوم هؤلاء المتشائمين من سيطرة هيئة تحرير الشام على سوريا، فماضى كل الحركات الإسلامية العنيفة التى رفعت شعارات الشريعة وتخفت وراء السيف والمصحف لا يفضى بأى إنسان إلا إلى التشاؤم، وما تجارب مماثلة فى أفغانستان وباكستان والعراق واليمن والصومال ونيجيريا وليبيا ومالى ببعيدة عن الأذهان.
كذلك فإنى أتفق مع من يقول إن لغة الخطاب التى يستخدمها الجولانى -الذى عاد إلى استخدام اسمه الحقيقى «أحمد الشرع» - لا تعكس بالضرورة تطورا فى أفكاره عن الدولة، لأن مثل هذه التغييرات تحتاج إلى سنوات طويلة ومن غير المتوقع أن تحدث بين عشية وضحاها، وحتى بفرض التسليم بأن الشرع قد تغير بالفعل من الناحية الأيديولوجية، فإنه سيكون من الصعب عليه مقاومة الضغوط من هيئة تحرير الشام وغيرها من الجماعات المسلحة المتحالفة معها والتى من غير المتوقع أن تتسامح مع الكثير من التغيرات التى طرأت عليه على المدى الطويل، وستأتى لحظة مكررة فى تاريخ مثل هذه الجماعات حيث يحدث الانفصال والاقتتال وبين هذا وذاك يكون أمثال الشرع عرضة للاغتيال والتصفية!
كذلك فإن ما ردده البعض بأن انفصال الجولانى وجبهة النصرة عن تنظيم أبوبكر البغدادى فى ٢٠١٣، كان بسبب رفض الأول للتكتيكات العنيفة التى استخدمها الأخير هو أمر غير دقيق، فالحقيقة أن انفصال الجولانى كان جزءا من صراع أكبر بين تنظيم القاعدة بقيادة الظواهرى، وبين تنظيم الدولة بقيادة البغدادى، انصاع فيه الجولانى للظواهرى، أى إن انفصال الجولانى لم يكن لاختلافات أيديولوجية حقيقية عن البغدادى، ولكنه كان فى إطار الصراع حول النفوذ والسلطة، والأمر نفسه تكرر بين الجولانى نفسه وبين الظواهرى فى ٢٠١٦!
• • •
هنا تأتى المعضلة! فبشار الأسد قبل سقوطه الأسبوع الماضى وفراره إلى موسكو، لم يكن حقا يحافظ على الدولة السورية الوطنية، ليس فقط بسبب عدم فرض نظام الحكم السورى للسيادة على كافة الأراضى السورية، وليس فقط بسبب افتقاد النظام لأى أفكار أو سياسات حقيقية للحكم والتنمية واحتواء الشعب على الأرض بحيث إن نظام حزب البعث فى عهد بشار لم يتبقَ منه سوى اسمه، ولا حتى بسبب أن سوريا فى عهد بشار أصبحت مرتعا للجيوش الأجنبية والميليشيات المسلحة، لكن بسبب ما اقترفه بشار الأسد فى حق شعبه من جرائم وصلت إلى حد الإبادة واستخدام الأسلحة المحرمة دوليا للحفاظ على حكمه!
بعبارة أخرى، فى الوقت الذى من المستبعد فيه أن يقوم أحمد الشرع أو هيئة تحرير الشام بالحفاظ على الدولة الوطنية، أو بمعنى أدق إعادتها إلى الحياة، فإن بشار قد سبقهم إلى نفس هذا الفشل، حيث حكم شبح دولة! فقد كان يحكم دولة بلا سيادة ولا أمن ولا نظام ولا حدود ولا شعب، لكنه فقط تخفى وراء عناوين سوريا والوحدة والعروبة والبعث للحفاظ على كرسيه!
إذا فمن أراد أن ينتحب على ضياع الدولة الوطنية السورية، كان عليه أن يبدأ نحيبه هذا قبل عقد من الزمان على الأقل، إن كان حقا جادا فى قلقه على الدولة وسيادتها ووحدتها!
إن الحديث عن الدولة الوطنية والخوف على انهيارها ليس جديدا ولا قاصرا على سوريا، ولكنه حديث ارتبط مؤخرا بالثورات العربية ٢٠١٠/٢٠١١ وما تلاها من أحداث. كان هذا الحديث ولا يزال محور نقاشات الشخصيات المثقفة والأكاديمية والنشطاء السياسيين والحقوقيين بالإضافة إلى العديد من الدوائر الدبلوماسية والسياسية فى الغرب والشرق حول منطقتنا العربية، وقد تجدد هذا الحديث مع سوريا وسط قلق كُثرٍ من أن يتكرر سيناريو الجولانى - بشار فى دول أخرى فى المنطقة وما قد يُفضى إلى المزيد من الانهيارات فى العالم العربى!
لتجنب مثل هذه السيناريوهات فى باقى الدول العربية، فعلى هذه الدول إعادة النظر فى نموذج الحكم الذى تعتمده، وما إذا كان هذا النموذج يوفر حقا استقرارا بالمعنى الشامل للكلمة يأخذ المحكوم قبل الحاكم بعين الاعتبار، أم أنه نموذج إقصائى، يضيق تعريف مفاهيم مثل الأمن والاستقرار على الحاكم وحاشيته ودوائره المقربة!
على الدول العربية أن تعيد النظر فى رهاناتها الداخلية والخارجية، فالدفع نحو نماذج أكثر رحابة فى الحكم واتخاذ القرار، والعمل على صياغة القوانين اعتمادا على قاعدة شعبية حقيقية ممثلة برلمانيا، والحرص على حق الشعوب فى التعبير والمساءلة والمراقبة للحكام، والعمل على إنفاذ القانون على الجميع دون استثناء، فى ظل مؤسسات تعمل وفقا لمحددات مثل الشفافية والمساءلة والمحاسبة، وليس المجاملة والواسطة والقبلية والمحسوبية هو الطريق الوحيد نحو الحفاظ على الدولة الوطنية فى العالم العربى!
إن الرهان على ترهيب الناس من نتائج الفوضى، والاعتماد فقط على الآلة الأمنية لا السياسية فى الحكم، والتصميم على تضييق مفهوم الأمن القومى ليقتصر على أمن النظام وفى بعض الأحيان أمن القصر، والتلويح دائما بقدرة النظام على العقاب لمن تسول له نفسه التحدى، قد يوفر بالفعل بعض الوقت، لكنه لا يمكن أبدا أن يجنب الدولة انفجارات مدوية، بعد أن يكون الشعب قد وصل إلى الحد الذى يتساوى فيه لديهم الموت بالحياة، والأمل باليأس، والخسارة بالمكسب، فتفقد الشعوب صبرها وتنفجر قنبلة الغضب لتؤذى الجميع!
• • •
فى الحقيقة، إن نظام بشار الأسد لم يكن استثنائيا عن معظم نظم الحكم فى المنطقة، وفى الوقت الذى كان يبدو فيه فى أوج قوته واستقراره، فقد تهاوى فى غضون تسعة أيام لا غير ليكشف لنا عن خواء النظام وعن عدم وجود حاضنة شعبية حقيقية لسياساته أدت إلى هذا السقوط المدوى!
نعم، الدولة الوطنية السورية فى خطر حقيقى وداهم، ولكن هذا لم يبدأ اليوم أو الأمس، ولكنه بدأ منذ أن قرر بشار أنه هو ومن بعده الطوفان، فذهب هو تاركا بلده للطوفان الذى لا يستطيع أحد أن يجزم فى اللحظة الحالية بمستقبله أو نتائجه!