أبدا هو المشهد الجنائزى نفسه، تتماثل مكوّناته الكبرى، ويبقى لاعبوه الأساسيون، مع اختلافات هامشية فى بعض التفاصيل. هذا هو مشهد الكوميديا المضحكة المبكية فى القطر العربى الليبى المنكوب.
أبطاله هم خليط عجيب متنافر مكوّن من الذين باركوا منذ بضع سنوات التدخلات الأجنبية، بقيادة ماكنة حلف الناتو التدميرية الهائلة، لإسقاط نظام الحكم السابق أولا ثم تهيئة المجتمع الليبى لمرحلة التّفتيت ونهب ثرواته النفطية ثانيا. لكن الأطماع والتوازنات الدولية وبلادات الدول المحيطة بالجثّة الليبية أضافت مكوّنات إقليمية ودولية جديدة جعلت عدد أبطال هذا المشهد العربى الحزين يزداد يوميا، لكأنّ الجميع يريد لليبيا أن تنتقل رويدا لتماثل المشهد العربى السورى بكل تفاصيله ومآسيه وحقارات لاعبيه وتمزيق عروبته وتهجير مواطنيه وإخراجه من الملعب القومى العروبى المقاوم للصهيونية والاستعمار.
فى البدء كان الأبطال أمريكيون وأوروبيون غربيون وبعض من العرب، واليوم دخل أبطال جدد أوروبيون شرقيون وإسلاميون شرق أوسطيون وبعض من بقايا العرب التابعين.
تمرّ السنون، وتسيل الدّماء، ويتّمت الأطفال وتزداد أعداد الأرامل، وتتدمّر البنية المجتمعية العربية تلو البنية، ويقهقه الكيان الصهيونى ومجانين واشنطن، ويشمت كل عدو، لكن المشهد المسرحى الممل المضحك المبكى البليد يعرض نفسه سنة بعد سنة، بينما رؤساء العرب وحكومات العرب ومجتمعات العرب وأحزاب العرب، وكنائس ومساجد وحسينيات العرب ومنظمات العرب الإقليمية المشتركة وجيوش العرب تتفرّج ببلاهة وقلّة حيلة، وأحيانا بتآمر مبطن خسيس.
الآن تجرى محاولة إنعاش الجثّة الليبية فى موسكو، منطلقة من أحلام قيصرية وعثمانية، وبحضور غير مرئى لأطماع أمريكية وأوروبية، بينما تكتفى دول الجوار، كل دول الجوار العربية، والجامعة العربية ومنظمة التضامن الإسلامى وغيرهم ممّن يدّعون انتماءً للعروبة والإسلام.. يكتفون بالتفرُّج المخزى، دون أن ينبسوا بكلمة احتجاج واحدة على إبعادهم، بتجاهل واحتقار، عن كل الاجتماعات والمناقشات والمبادرات الخارجية.
نسأل: هل أن كل تلك الجهات العربية المتفرّجة النّاعسة تسمع وتعى معنى الهمسات الشعبية المتصاعدة بشأن خذلان شعوب الأقطار العربية المنكوبة وبشأن، بالتالى، كفرهم بروابط العروبة والإسلام وهويّتهم القومية والإسلامية والمسيحية؟
يشك الإنسان فى أن تلك الجهات العربية تدرك أو تعى عظم المآسى الفكرية والشعورية والانتمائية التى تتجمّع شيئا فشيئا لتنفجر فى وجوه الجميع فى المستقبل غير البعيد.
عند ذاك لن ينفع بكاء من رفعوا ألوية التضامن والتوحد العربى وشعارات الأمة الواحدة ولا بكاء المفجوعين من قادة الحكم العربى عندما يواجهون نفس مصير حكام الدويلات الأندلسية الذين نأوا بأنفسهم عن بعضهم البعض لينجوا بأنفسهم وبالنّتف التى كانوا يحكمونها ليواجهوا بعد حين مآلات السقوط والذّل وفقدان كل شيء «وليبكوا كالنساء ملكا لم يحافظوا عليه كالرجال».
لنسأل مرة أخرى، وللمرة الألف، هل حقا أن حشود الملايين الشعبية العربية، بقيادة شباب وشابات، أمل هذه الأمة، وصل بهم وعيهم السياسى والوطنى والقومى إلى الاكتفاء بالنضال والموت من أجل الخبز والمسكن وخدمات اجتماعية هنا أو هناك، بينما يتجاهلون حاجة أمّتهم العربية ووطنهم العربى الكبير، وبالتالى كل قطر عربى، للسّلام والاستقرار والحياة الكريمة واللحاق بحضارة العصر ومنجزاته المادية والمعنوية الكثيرة؟
هل حقا أنهم لا يسمعون قهقهات الأعداء الصهاينة والاستعماريين، ولا يعون أخطار مغامرات الإرهابيين المجانين فى الدّاخل، ولا يقتنعون بأن سقوط كل قطر عربى سيعنى خطوة أخرى نحو سقوط الأمة بكاملها؟
أملنا كبير، ولن نيأس، لكن عدد الأعداء يزداد ومؤامراتهم تزداد تعقيدا وشيطنة، وهم يسهرون الليالى لإتمام مهمّة تاريخية: جعل العرب أمة ضعيفة ممزّقة هامشية، تماما كما فعلوا بغيرهم فى شتّى بقاع الدنيا عندما قبلت زعامات الأخيرين مبادلة الأرض والعرض بعقود من الزجاج الملوّن الرخيص.
نعم، التاريخ قادر على إعادة نفسه!