منذ أسابيع قليلة أدلى وزير الاتصالات الدكتور طارق كامل بتصريح مدهش لم ينل ما يستحقه من تعليقات، قال ما معناه إن الحكومة المصرية تتنصت بالطبع على المكالمات التليفونية، إذ إنه، إذا لم تفعل الحكومة ذلك، لن تأتى استثمارات أجنبية إلى مصر!
التصريح مدهش من أكثر من ناحية: الحكومة تتنصت على المكالمات التليفونية، وكنا نظن أن ذلك عهد قديم قد انتهى، ووزير من وزرائها يعترف بذلك، وكأنه أمر طبيعي ولا غضاضة فيه، وكنا نظن أن هذا عمل مشين جدا ولا يشرف أي حكومة، ثم يربط الوزير بين هذا التنصت وتدفق الاستثمارات الأجنبية، فما العلاقة بين هذا وذاك؟
قرأت عدة تعليقات على هذا التصريح، ولكن كل ما قرأته كان من باب السخرية وبقصد إثارة الضحك، إذ قدم التصريح مادة خصبة ليحتل ما يمكن أن يدور بين مصريين في مكالمة تليفونية ويؤدى بالمستثمر الأجنبي إلى العدول عن قراره بالاستثمار في مصر.
ولكن التصريح يستحق أيضا بعض التفكير الجاد، خاصة أن الوزير كان جادا تماما عندما أدلى بتصريحه.
من أول ما يمكن أن يعترى المرء إزاء سماعه بهذا التصريح، الاندهاش الشديد من مدى التغير، الذي حدث في مصر خلال الأربعين أو الخمسين سنة الماضية (بل ربما أيضا في العالم كله) نعم كان هناك تنصت على التليفونات في مصر في الستينيات من القرن الماضي، وعلى نطاق واسع، ولم يكن أحد يشك فيه إلا إذا كان غافلا تماما عن طبيعة النظام السياسي في مصر في ذلك الوقت.
ولم يكن الأمر مقتصرا على التليفونات، إذ كان هناك تنصت من سائق التاكسي على ركابه، ومن بعض الطلبة على أساتذتهم، ومن بعض أساتذة الجامعات على زملائهم.. الخ، ولكن هذا كله كان يتم دائما في السر، وكان اكتشافه يمثل فضيحة دائما للقائم بالتنصت ولمن أوعز له به.
فما الذي حدث منذ ذلك الوقت ليجعل وزيرا محترما يصرح بأن الحكومة تتنصت على الناس دون أن يبدو أنه يعترف بشيء خطير؟
بل إننا كنا نظن أن هذا التنصت قد انتهى منذ أن أعلن أنور السادات في أوائل السبعينيات القضاء على ما سماه «مراكز القوى»، والتي كانت تبدو مسئولة أكثر من غيرها عن الطابع البوليسي، الذي ساد مصر في الستينيات، ثم إصداره الأوامر بإحراقه كثيرا من الملفات، التي كانت تحتفظ بها أجهزة المخابرات، ومنذ انتهاء الظاهرة، التي عرفت باسم «زوار الفجر»، حيث كان يأتي بعض رجال المباحث للقبض على بعض النشطاء سياسيا في بيوتهم خلال الليل، وأخذهم إلى أقسام الشرطة دون أن يعرف هؤلاء بالضبط التهم الموجهة إليهم، ولكنهم لا يستغربون الأمر إذ ربما لم تتجاوز جريمتهم التفوه بجملة في التليفون أو غيره، تعبر عن شعور عدائي تجاه النظام أو أحد رجاله المهمين، كنا نظن أن هذا كله قد انتهى منذ عهد السادات، فما الذي جرى يا ترى مما يجعل هذا التنصت ليس فقط مرغوبا فيه بل أيضا، على حد تعبير وزير الاتصالات، شيئا ضروريا؟
ولكن قليلا من التأمل لابد أن يؤدى بنا إلى تصديق ما أشار إليه الوزير على الأقل، فيما يتعلق بقيام الحكومة بالتنصت على الناس، سواء كان لهذا علاقة بالاستثمار الأجنبي أو لم يكن.
فمن ناحية، أدى تطور تكنولوجيا الاتصالات خلال الأربعين عاما الماضية إلى تقدم كبير في التنصت على الناس دون أن يشعر الناس بذلك، ففي الستينيات مثلا كان المتكلم فى التليفون يشعر أحيانا بأن شخصا غريبا دخل على الخط، مما قد يدفعه إلى توخي الحذر، لم يعد هذا ضروريا في ظل الوسائل الحديثة للتنصت، فمن الممكن الآن ممارسة التنصت في اطمئنان تام، الأهم من ذلك أن الحكومات الحديثة كلها وبدون استثناء أصبح لديها مبرر قوى لمختلف أنواع التنصت دون حاجة للتعلل بالشك في معاداة شخص ما لسياسة النظام الحاكم أو معاداة للقائمين بالحكم، ليس من الضروري أن يكون التنصت عليه شيوعيا أو يساريا أو متطرفا من أي نوع، يكفى أن يكون هناك شك في احتمال أن يكون المتنصت عليه عازما على القيام بعمل «إرهابي» و«الإرهاب» يستخدم الآن بمعان متعددة دون أن يشترط في القائم به أو فيمن يحتمل أن يقوم به الانتماء إلى أي تنظيم سياسي أو اعتناق أي مذهب معاد لنظام الحكم.
يكفى مثلا أن يوجد معه قبل أن يستقل أي طائرة مطواة صغيرة أو مقص أو أمواس حلاقة، أو حتى زجاجة ماء عادية، ولكن حجمها يزيد عن حجم معين يكفى لصنع مادة متفجرة إذا أضيفت إليها بعض المواد الكيماوية، والتي قد يكون الإرهابي قد أخفاها في مكان ما في جسمه.
المهم أن وصف الإرهابي يستخدم الآن بمعان كثيرة وواسعة لدرجة تكاد تطال كل شخص، وفى هذه الحالة يمكن افتراض أن كل شخص هو إرهابي إلى أن يثبت العكس، ومن هنا يمكن تبرير التنصت على أى شخص دون اشتراط أي من المبررات التقليدية للتنصت.
لابد أن مثل هذا التفكير كان وراء إدلاء وزير الاتصالات بهذا التصريح المدهش، دون أن يشعر بأي غرابة فيه، ولكن ما علاقة هذا كله بالاستثمار الأجنبي.. هل الإرهاب يخيف المستثمر الأجنبي أكثر مما يخيف غيره من الناس؟ خطر لي أن الإجابة قد تكمن فيما قرأته منذ سنوات طويلة، عندما بدأ الحديث بكثرة عن ظاهرة الشركات متعددة الجنسيات واستثماراتها خارج حدودها الأصلية، وقيامها بنشر نشاطها من دولة لأخرى، كلما وجدت المناخ الاستثماري في دولة أفضل منه في دولة أخرى، قرأت أن من أول ما تسأل عنه الشركة العملاقة قبل أن تقرر الاستثمار في دولة من دول العالم الثالث هو شخصية وزير الداخلية والمقصود بذلك مدى حزمه وشدته، ودرجة استعداده للضرب بيد من حديد في مواجهة أي شغب أو إضرابات عمالية تطالب بزيادة الأجور، أو تشكو من ظروف العمل أو من الاستغناء عن بعض العمال الخ.
المناخ السياسي مهم طبعا لهذه الشركات، وهى تعود إلى تقييمه وبحث مدى ملائمته بين الحين والآخر، إذ إن التقلبات السياسية العتيقة قد تهدد استثماراتها بالخطر، وقد تؤدى إلى فرض قوانين جديدة ليست في صالحها، وقد تفرض فجأة قيودا على تحويل الأرباح إلى الخارج بعد أن كان هذا مباحا، لابد إذن من الاطمئنان إلى ما يسمى بـ«الاستقرار»، ومن أجل ضمان هذا الاستقرار قد يكون «التنصت التليفوني ضروريا».
ولكن لنفرض أن كل هذا صحيح، التنصت ضروري لضمان الاستقرار والاستقرار ضروري لقدوم الاستثمارات الأجنبية لماذا نعلق كل هذه الأهمية على قدوم الاستثمارات الأجنبية، لدرجة التضحية بواحدة من أهم الحريات الشخصية، وبحق من أهم حقوق الإنسان حرية التعدد وإبداء الرأي، وحق التعبير عن النفس بلا قيد، والتحرر من الخوف من أن يكون المرء مراقبا باستمرار، تحصى عليه حركاته وسكناته وتعرف كل أسراره وأخطائه بل تسجل عليه ليحاسب عليها عند اللزوم؟
هل تشجيع الاستثمار الأجنبي يبرر كل هذا الخوف، وفقدان الحرية إلى هذه الدرجة.. ما هو يا ترى المبلغ الذي إذا حصلت عليه الدولة من المستثمر الأجنبي، أصبح مثل هذا التقييد لحريات الناس مبررا ومشروعا؟ مقابل أي ثمن، يا ترى يمكن أن يرضى الإنسان بأن تصبح أسراره ملكا مباحا لوزير الاتصالات ليفعل بها ما يشاء؟
ألهذه الدرجة تغير العالم في الأربعين أو الخمسين عاما الماضية، فأصبح من الممكن لرجل محترم كوزير الاتصالات أن يدافع عن تقييد الحريات بحجة تدور حول النقد الأجنبي، الذي ستحصل عليه الدولة ودون أن يبدو وكأنه خطر بباله أى شك فى صحة هذا النوع من التفكير؟