أصبحنا الآن ــ كما يقولون ــ قاب قوسين أو أدنى من الوقوع كفريسة فى براثن الذئب الإثيوبى، فبعد عدة شهور ستبدأ حكومة آبى أحمد الملء الثانى لخزان سد النهضة، لتتحكم لأول مرة فى التاريخ وإلى الأبد فى كميات المياه الواردة إلينا من النيل، حيث سنصبح عاجزين حتى عن مجرد التفكير فى تنفيذ نصيحة الرئيس الأمريكى السابق دونالد ترامب بتدمير السد، لأن المياه المخزنة وراءه ستغرق مساحات واسعة من السودان، وستخلف وراءها كوارث إنسانية لا يمكن لأحد احتمالها!
هذا الملء الثانى ــ إذا تم ــ سيجعل إثيوبيا أكثر تعنتا فى أى مفاوضات أو تسويات محتملة، بل الأرجح أنها ستفرض شروطها المتعسفة علينا، كأن تفرض علينا حصة أقل من المياه، وتطالبنا بشراء ما نحتاجه من أى كميات إضافية، وقد تضغط علينا لتوصيل مياه النيل لإسرائيل كما كان حلم رئيس الوزراء الصهيونى الأسبق مناحم بيجين خلال مفاوضات كامب ديفيد مع الرئيس الأسبق أنور السادات، أو تجعلنا نخضع لتوجهاتها السياسية أو حتى لتوجهات حلفائها وعلى رأسهم إسرائيل، فى أى ملف من الملفات الدولية المهمة، وسنصبح فى كل الأحوال مجرد رهينة فى يد حكام إثيوبيا يفعلون بنا وفينا ما يشاءون.
خبرة السنوات الماضية فى التفاوض مع إثيوبيا قدمت لنا درسا وراء درس فى فنون المراوغة والخبث، لكى تصل حكوماتها المتعاقبة إلى ما شارفت على الوصول إليه وهو ملء خزان السد، فى حين كنا طوال هذه السنوات غارقين فى بحر من حسن النية حول إمكانية التوصل إلى اتفاق معها من خلال المفاوضات.
وحتى فى تعاملها مع الأراضى السودانية فى إقليم الفشقة التى كانت تحتله منذ أكثر من 27 عاما، واستطاعت القوات السودانية تحريره مؤخرا، قدمت لنا إثيوبيا نموذجا جديدا لمدى الانحطاط الذى وصلت إليه العقلية السياسية الحاكمة هناك، فبدلا من أن تحترم المواثيق الدولية التى سبق ووقعت عليها لترسيم الحدود بين البلدين، طالبت الخرطوم ــ ببجاحة ــ بسحب قواتها من هذه الأراضى السودانية، والدخول فى مفاوضات معها حول مستقبلها بعد أن سحبت اعترافها باتفاقيات الحدود الموقعة بينهما عام 1902، بل إنها تهدد بشن حرب على هذه القوات السودانية بجيشها النظامى بعد أن كانت تسلح ميليشيات إثيوبية لتشتبك مع الجيش السودانى والتى منيت بهزائم متتالية.
الورقة الأخيرة التى تراهن عليها الدبلوماسية المصرية لوقف المخططات الإثيوبية للسيطرة على النيل هو رئاسة الكونغو للاتحاد الإفريقى خلفا لجنوب أفريقيا التى كانت منحازة للمواقف الاثيوبية، ومطالبة أمريكا والاتحاد الاوروبى بالدخول كطرف أصيل فى المفاوضات، من أجل استخدام نفوذهما للضغط على إثيوبيا لكى توقع على اتفاق ينظم قواعد ملء وتشغيل السد، لكن الوقت المتبقى على تنفيذ اثيوبيا قرارها بالملء الثانى أقل من 5 شهور حيث حددت يوليو القادم موعدا له، وهو وضع يهددنا بكوارث محققة إذا خسرنا رهاننا على هذه الورقة بعد أن استبعدنا كل البدائل الأخرى لمواجهة هذا العدوان الإثيوبى الخطير على أمننا القومى!