ما أكثر المشاعر والأفكار التى لابد أن تكون قد طرأت علينا جميعا، ونحن نشاهد صور رجال العهد السابقين فى الصحف أو على شاشة التليفزيون، تارة وهم يُقادون كالمجرمين العاديين إلى مكان التحقيق، وأيديهم مقيدة بالسلاسل، أو وهم جالسون فى السجن بملابسهم البيضاء المتشابهة، بعد أن كنا قبل أسابيع قليلة نراهم فى كامل هندامهم، وتحيطهم مظاهر الأبهة والتوقير.
من هذه المشاعر والأفكار، ما يجعلنا نضرب كفا بكف متعجبين من سرعة تبدل الأحوال، أو أن نعود إلى تذكر حماقة الإنسان واغتراره بمظاهر هذه الحياة الزائلة، أو أن نقول لأنفسنا إنه فى نهاية المطاف لابد أن ينال كل شخص ما يستحقه، وأن العدل فى النهاية لابد أن يتحقق بصورة أو بأخرى، حتى فى هذه الدنيا، وأن المظلوم لابد، مهما طال انتظاره، أن ينصفه الله من الظالم.. إلخ.
ولكن خطر لى أيضا أن هؤلاء المحبوسين والمقدمين للمحاكمة، رغم خضوعهم لنفس الإجراءات، وظهورهم فى الصور، جنبا إلى جنب، وبنفس الشكل المهين، وحتى لو صدرت ضدهم أحكام متقاربة فى الشدة، ليسوا فى الحقيقة فى مستوى واحد من الناحية الأخلاقية.
كان من أوائل الدروس التى تلقيناها فى كلية الحقوق أن حكم القانون ليس مساويا للحكم الأخلاقى، وأن دائرتى الأخلاق والقانون ليستا متطابقتين، فهناك ما ينافى الأخلاق ولا يعاقب عليه القانون، كمعظم أنواع الكذب أو النفاق، وهناك مما يعاقب عليه القانون ما لا يشين المرء أخلاقيا، كبعض حالات القتل الخطأ مثلا أو كقيادة سيارة بسرعة أعلى من السرعة المسموح بها، دون قصد، أو مخالفة أى قانون بسبب الجهل بوجوده، طبقا لقاعدة أن الجهل بالقانون ليس بعذر.. إلخ.
هذا الاختلاف بين حكم القانون والحكم الأخلاقى، يمكن أن نشعر ببعض الأسف له ولكن لا حيلة لنا معه. فالدولة ليست واعظا أخلاقيا، وليس من مهامها الأساسية تحويل الأشرار إلى فضلاء، بل مهمتها الأساسية المحافظة على الأمن والنظام العام والدولة «وكذلك القانون» لا تستطيع عادة أن تميز بين عدة أشخاص ارتكبوا نفس الجريمة ولكن لأسباب مختلفة، وبدوافع نفسية تخضع لأحكام أخلاقية متفاوتة. صحيح أن القانون يعترف بوجود ظروف مشددة للعقوبة وظروف مخففة، ولكن مجال التشديد والتخفيف فى الحقيقة ضيق للغاية، وهناك اختلافات كثيرة بين مرتكبى الجريمة الواحدة لا يمكن بل ولا يتصور أن يعترف بها القانون كظروف مشددة أو مخففة، لصعوبة أو استحالة إثباتها أو التحقق منها.
●●●
عندما أفكر فى الأسباب التى
أدت بهذا العدد الكبير من سياسيى العهد البائد إلى ارتكاب هذا العدد الكبير من الجرائم التى يعاقب عليها القانون، وفى الظروف التى ارتكبت فيها هذه الجرائم، أجد اختلافات شاسعة بين كل حالة وأخرى، بعضها معروف للكافة وبعضها من باب الترجيح أو التخمين، ولكنها تؤدى كلها إلى اختلافات كبيرة أيضا فى الحكم الأخلاقى الذى تستحقه كل منها. هناك مثلا من بين المتهمين أو المطلوبين للتحقيق أشخاص اقترفوا أخطاء جسيمة للغاية فى حق المجتمع المصرى، أدت إلى موت بعض المواطنين أحيانا، وإلى تشريد بعضهم فى أحيان أخرى، وإلى المزيد من البؤس فى معظم الأحيان، ومع ذلك فإنى كلما تذكرتهم أشعر نحوهم بالاحتقار أكثر مما أشعر بالغضب. ذلك أن الغضب يفترض أن الشخص الذى تصب عليه غضبك لديه حد أدنى من الذكاء، ومن الشجاعة ومن القدرة على اتخاذ قرارات مستقلة وليست مجرد ردود أفعال لأفكار وتصرفات الآخرين. إن هذا لا يصلح بالطبع أن يكون سببا للصفح أو للإعفاء من المسئولية الجنائية أو حتى الأخلاقية، وإلا لوجدنا سببا لإعفاء أى مجرم من العقاب، ولكنه يصلح فى رأيى سببا من الأسباب المخففة للعقوبة.
رجل آخر لا يزيد ذكاؤه بدوره على المتوسط، ولكنه وجد نفسه منذ نعومة أظفاره محاطا بمن يعامله معاملة متميزة عما يعامل به كل أقرانه، فى المدرسة أو الجامعة، فى أماكن الجد واللهو، من المصريين والأجانب، بل ويستقبل أحيانا من علية القوم فى أكبر الدول بما يزيد كثيرا مما يستحق من احترام.
بدأت هذه المعاملة المتميزة قبل أن يتم سنتين من عمره، فاستقر فى ذهنه خطأ أنه شخص متميز بالفعل، ولم يسمح له ذكاؤه المحدود بأن يتشكك فى الأمر، بأن يتساءل عما إذا كان حقا يستحق هذه المعاملة المتميزة.
كان من الطبيعى أن يفاجأ هذا الرجل بثورة 25 يناير أكثر مما فوجئ بها أى شخص آخر فى مصر، فقد استقر فى وعيه أنه رجل محبوب من الشعب المصرى، بينما كان جميع أفراد الشعب (باستثناء عشرة أو عشرين من الملتفين حوله) قد ضاقوا به ذرعا ويتمنون أن يغور عن وجوههم، اليوم قبل الغد.
هذا الرجل لابد أيضا من محاكمته لما تسبب فيه بغبائه وعناده من مآسٍ لجموع غفيرة من المصريين، ولما بدد بسبب غروره وحماقته من أموال هذا الشعب المسكين. ولكنى لا أستطيع أن أضعه على نفس المستوى الأخلاقى (أو اللا أخلاقى) الذى أضع فيه هؤلاء العشرة أو العشرين من الملتفين حوله، والذين قاموا بخداعه مثلما حاولوا خداعنا.
هؤلاء العشرة أو العشرون هم فى نظرى المصدر الأساسى للبلاء كله. استولو على الأموال بغير وجه حق، وطبقوا سياسات ضارة بمجموع الشعب، وهم يعرفون تماما حجم الأضرار المترتبة عليها.. زينوا للرئيس وأسرته أسوأ القرارات، ونافقوه هو وأسرته طمعا فى تحقيق أهداف أنانية بحتة.
يتمتعون بدرجة كافية من الذكاء (ذلك النوع القاتل من الذكاء الذى يحظى به المجرمون الكبار)، سمحت لهم بفهم شخصيات الرؤساء على حقيقتهم، واستغلالهم بأقصى درجة ممكنة لتحقيق مصالحهم، وهم متوارون فى الظل يتظاهرون بأن القرارات تصدر من جهات عليا لا تأثير لهم عليها، فيجنون ثمارها وهم يرون مدى معاناة الناس من آثارها، فإذا أطلوا علينا بدوا وكأنهم تماثيل مصنوعة من الشمع، لا يرمش لهم جفن، ولا يبتسمون إلا ابتسامات صفراء يحيون بها الرئيس فى دخوله وخروجه.
بعض هؤلاء صدرت اتجاههم قرارات بالمنع من السفر والتحفظ على أموالهم، وحُقق معهم، وبعضهم أودع السجن بالفعل وقدموا للمحاكمة، إذ إن معظمهم قاموا بأعمال تخضع لطائلة القانون بلا شك، ويوجد من الأدلة ما يبرر بسهولة محاكمتهم ومعاقبتهم.
ولكن المدهش حقا أن أكبر جرائمهم لا يتناولها أى نص واضح فى القانون، وإن كانت تعتبر من الناحية الأخلاقية أسوأ أعمالهم طرا. إذ أين هى القاعدة القانونية التى تنص على عقاب هؤلاء الذين يساعدون رجلا غير صالح للحكم على الاستمرار رئيسا للجميع لمدة ثلاثين عاما، ويخلقون منه فرعونا متكبرا ومغرورا، ويمكنونه، بمختلف أساليب الخداع والنفاق، من إفساد الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، إذ يزودونه بقرارات لتوقيعها يعرفون مقدما ما لابد أن يترتب عليها من أضرار للناس؟
إن من الممكن بسهولة أن نكتشف حجم الأموال التى استولوا عليها وهربوها، وعدد القصور التى شيدوها، ومساحات الأراضى التى وضعوا أيديهم عليها بغير حق، ولكن ليس من الممكـــن بنفس الســـــهولة إثبات اشـــتراكهم يوميا فى إفساد الحياة السياســـية، وهم على علم تام بحقيقة ما يصنعونه.
خذ مثلا ما فعلوه من أجل تمرير تلك الفكرة الشيطانية بتوريث الحكم من الأب للابن.
كان هذا الهدف فى نظرهم مسألة حياة أو موت، إذ إن اختفاء الأب، بعد كل ما فعلوه لتنصيبه فرعونا ورقيا، لابد أن يؤدى عاجلا أو آجلا إلى اختفائهم هم بكل ما جمعوه من سلطة أو أموال، وقد يهدد حياتهم نفسها لابد إذن من تنصيب شخص يختارونه بأنفسهم، ويشعر نحوهم، لهذا السبب، بالولاء. أسهل فريسة جديدة هى الابن. هكذا قضى الشعب السنوات الأخيرة من حكم مبارك مشغولا بقضية غاية فى السخف، ولم يكن لها أى لزوم، خاصة إزاء ما يواجه الناس من صعوبات الحياة اليومية، ومشكلات عويصة، اقتصادية وسياسية، فى الداخل والخارج، وهى كيف يمنع تنفيذ هذه الخطة الشيطانية: خطة نقل الحكم من الأب لابنه؟
لقد استخدم هؤلاء المتآمرون كل الأساليب الدعائية والقانونية التى قد تجعل تنفيذ هذه الفكرة ممكنا، حتى لم يبق أمام الناس من وسيلة لمنع تنفيذها إلا القيام بثورة.
ولكن أين هى القاعدة القانونية التى تمكننا الآن، وقد قامت الثورة بالفعل، من توقيع العقوبة الملائمة عليهم، لما مارسوه من خداع، وما ارتكبوه من تزييف، وما بدّدوه من أموال لوضع هذه الخطة موضع التنفيذ؟ نعم، من الممكن إلغاء المواد الدستورية التى وضعوها لكى يستبعدوا أى احتمال آخر غير التوريث، ولكن ما هى العقوبة القانونية على وضع هذه المواد؟ بل ما هو بالضبط التشخيص القانونى للجرائم المتعددة التى ارتكبوها من أجل التوريث؟ الخطأ الأخلاقى واضح كالشمس، وهو جسيم للغاية وبالغ الضرر، ولكن القانون لا يمكننا من الإمساك بهم ومعاقبتهم إلا على جرائم أهون بكثير.
●●●
بل ما القول فيما ارتكبه أشخاص من نوع مختلف، لم يجر أى تحقيق معهم، ولا جرى أى تحفظ على أموالهم، ولا منعوا من السفر أو فكر أحد فى منعهم من السفر أو التحقيق معهم، لأنهم لم يرتكبوا أى جريمة ظاهرة يعاقب عليها القانون، ومع ذلك فقد ارتكبوا عددا لا نهائيا من الأخطاء الأخلاقية التى ألحقت ضررا جسيما بالحياة السياسية والثقافية فى مصر، وساهموا فى إشاعة درجة لا يستهان بها من الإحباط، وجمعوا من وراء ذلك ثروات لا يستهان بها أيضا وإن لم يطالبهم أحد بملء استمارات «من أين لك هذا؟»، إذ لا يتبادر إلى الذهن عادة أن هذه الأموال ناتجة عن أعمال لا تقل فسادا عما يرتكبه السياسيون من أصحاب السلطة.
أقصد بهؤلاء بعض الكتاب فى الصحف والمجلات الذين لم ينقطعوا طوال الثلاثين عاما الماضية عن التودد للرئيس السابق أو ابنه أو قرينته، وخطب ودهم، واحتلوا بسبب ذلك مناصب إدارية رفيعة، وحصلوا على جميع جوائز الدولة الممكنة. كيف تسنى لهؤلاء أن يخرجوا من مأزق ثورة يناير كما تخرج الشعرة من العجين؟ لقد ظلوا يطلقون عبارات الثناء والتأييد للعهد السابق ورئيسه إلى ما قبل سقوطه بيوم واحد، ولكنهم بعد أن قامت الثورة، لم ينقطعوا أيضا يوما واحدا عن الكتابة عن الثورة والديمقراطية والعدالة الاجتماعية..إلخ.
بأى قانون دنيوى يمكن أن يحاكم ويعاقب مثل هؤلاء الأشخاص؟ إن هذا الخلل فى قوانيننا الدنيوية لابد أن يصيبنا ببعض الأسف، ولكنه يجب ألا يصيبنا بالابتئاس الشديد. ذلك أن لدى شعورا دفينا بأن كل شخص لابد أن يحصل فى النهاية، بصورة أو بأخرى، وحتى فى هذه الحياة الدنيا، على ما يستحقه بالضبط عن عقاب أو ثواب.