انطلقت الرحلة بحديث بدا عابرا عن أن دستور 2014 كتب بنوايا حسنة، «لكن الدساتير لا تكتب بتلك النوايا وحدها»، ثم صمت مطبق، ولا حديث تصريحا أو تلميحا عن نية لتعديل الدستور كى نمحو ما كتب بالنوايا الحسنة وحدها، بل إن بعض ممن خاض فى الأمر أنكر وجود نية التعديل أصلا، بعد ردود دفاعية من رموز سياسية كبرى شاركت فى لجنة الخمسين التى وضعت الدستور، وأكدت فيها أننا نملك واحدا من أفضل الدساتير.
هذا ما جرى فى ولاية الرئيس السيسى الأولى، غير أن الأمر تغير فى ولايته الثانية وبات الحديث عن تعديل الدستور يتكرر من وقت لآخر بوتيرة أسرع، وبتفاصيل أكثر، وتابعنا كتابات وتصريحات، بدت فى البداية أشبه بجس لنبض الشارع، ثم سرعان ما بات الكلام واضحا صريحا عن استعدادات فى «ائتلاف دعم مصر» لمناقشة القضية، قبل أن يحال الأمر برمته إلى مجلس النواب.
فى البرلمان كانت نقطة الانطلاق مع تقديم عدد من النواب طلبا بتعديل بعض مواد الدستور الحالى، تتعلق بفترة بقاء الرئيس فى الحكم، وأمور تخص القضاء وإعادة مجلس الشورى تحت مسمى مجلس الشيوخ، وتخصيص كوتة للمرأة من عدد مقاعد البرلمان لا تقل عن 25%، «بعد أن قدمت المرأة الكثير لمصر على مدار السنوات الماضية»، على حد وصف أحد المتحمسين للتعديلات الدستورية.
اليوم نحن بصدد تصويت نهائى فى اللجنة العامة بمجلس النواب على حزمة من مواد الدستور وافقت اللجنة التشريعية على تعديلها، وأبرزها المادة 140 التى نصت فقرتها الأولى على انتخاب رئيس الجمهورية ست سنوات ميلادية، تبدأ من اليوم التالى لانتهاء مدة سلفه، ولا يجوز ان يتولى الرئاسة لاكثر من مدتين رئاسيتين متتاليتين»، ومادة انتقالية تقول «تنتهى مدة رئيس الجمهورية الحالى بانقضاء ست سنوات من تاريخ إعلان انتخابه رئيسا للجمهورية، ويجوز إعادة انتخابه لمرة تالية».
طبعا هناك تعديلات جرت فى مواد تتعلق بالقضاء ودور مجلس الدولة، وتعيين رؤساء الجهات والهيئات القضائية، وتولى منصب النائب العام، فضلا عن دور القوات المسلحة وتعيين وزير الدفاع، غير أن المادة 140، والمادة الانتقالية، تظلان الأبرز بين التعديلات، فهما تلخصان الهدف من الرحلة الطويلة التى جرى قطعها منذ اللحظة الأولى للحديث عن «دستور النوايا الحسنة»، وصولا إلى الذهاب المرتقب إلى صناديق الاستفتاء.
وبالاستفتاء على التعديلات الدستور التى يجرى الاستعداد له على قدم وساق الآن، نكون وضعنا دستورين (2012، 2014)، وأجرينا تعديلا (2019) فى 7 سنوات، ومع الأخذ فى الاعتبار حديث رئيس مجلس النواب عن وضع دستور جديد كليا فى غضون عشر سنوات من الآن، نكون بصدد تغيير الدستور أو تعديله كل 4 سنوات ونصف السنة.
سيقول المتحمسون لتعديل الدستور فى وجه المعارضين: وماذا يضير فى ذلك؟ ألم تغير بلدان كثيرة دساتيرها؟، هل نحن الوحيدون الذين يعدلون ويبدلون دساتيرهم؟ ويتبعون هذا الكلام بديباجة معادة ومكررة عن أن الدساتير ليست نصوصا مقدسة، غير أن هذا الحديث يأتى من أصوات كانت من أكثر المتحمسين لدستور 2014 وللمواد والفقرات التى تدافع بضراوة عن تغيرها حاليا، فهل تبدلت «النوايا الحسنة»!.
الخلاف مع هؤلاء ليس فى أن الدستور ليس نصا مقدسا من عدمه، لكن جوهر الخلاف حول مدى اختبار مواده باعتباره العقد الاجتماعى بين الحاكم والمحكوم، وهل ظهرت لنا عيوبا تستدعى تغييره أو تعديله؟، غالبية البلدان التى يتحدث البعض عن تبديل دساتيرها اختبرت تلك الدساتير، وخاصة المواد التى تضمن التداول السلمى للسلطة، وجاءت دساتيرها عبر حوار مجتمعى واسع النطاق، طغى فيه ربما صوت من قالوا «لا» على من قالوا «نعم» فى بعض محطاته.
كلمة أخيرة إذا كانت رحلة تعديل الدستور على نحو ما أشرنا، هل كنا فى احتياج إلى كل هذه اللافتات التى زرعت فى الشوارع والميادين تحت شعار «اعمل الصح»، وألم تكن وسائل الإعلام الرسمية كافية لحض المواطنين على الذهاب لصناديق الاستفتاء، وتوجيه أموال تلك اللافتات لعمل الخير أو التبرع بها لصندوق «تحيا مصر»؟ ألم يكن ذلك أفضل؟