تعددت التحليلات والآراء فى الأسابيع الماضية حول ما يجرى فى الجزائر والسودان؛ ثورة أم انقلاب، تحرك شعبى منظم أم احتجاج بلا قيادة، والأهم طبعا هل يفضى إلى انتصار للحرية والديمقراطية والعدالة أم ينتهى إلى فوضى وانقسام ينتهيان إلى ردة فى الحقوق والحريات، أو إلى اقتتال داخلى، كما جرى مع الموجة السابقة من ثورات الربيع العربى.
الإجابة على الأسئلة السابقة ليست عندى ولا أظن عند غيرى. ولكن ما جرى فى البلدين الشقيقين يؤكد حقيقتين أساسيتين: الأولى أن المنطقة العربية لا تزال بعيدة عن الاستقرار بل ومرشحة للدخول فى موجة ثانية من التغيير، قد لا تكون بالضرورة على غرار ما جرى فى الجزائر والسودان، وقد لا تأتى من خلال التظاهر فى الشوارع والميادين، ولكن الأكيد أن رياح التغيير قادمة لا محالة. أما الحقيقة الثانية فهى أن نجاح أو فشل أى محاولة للتغيير تتوقف على قدرة الاطراف الرئيسيّة الفاعلة على التفاوض من أجل الوصول لحل توافقى يقيم توازنا مقبولا بين المصالح المختلفة.
أما عن التغيير فهو، فى تقديرى، حتمى لأنه بعد ثمانى سنوات من خروج الجماهير لاسقاط نظم حاكمة كانت قد شاخت وفسدت وحرمت الناس من حريتها وكرامتها، فإن الدول العربية التى حافظت على كيانها ووحدتها، بدلا من أن تستجيب لمطالب الناس بالحرية وسيادة القانون، اعتمدت فى تثبيت شرعيتها واستقرارها على الرهان على النجاح الاقتصادى فقط، ولكن عادت لاحكام قبضتها على المجتمع باستخدام ذات الوسائل والأدوات السائدة قبل ٢٠١١ وإن كان بحنكة وكفاءة اكبر على نحو ما يتضح من سيطرتها على الاعلام وعلى المجالس النيابية وعلى النشاط الأهلى. هذه العودة لذات المنطق والأساليب سوف تؤدى إن عاجلا أم آجلا لموجة جديدة من التغيير، خاصة اذا تعثر الاصلاح الاقتصادى المعول عليه لأى سبب، أو استمرت وتيرة الاحباط بين الشباب العربى. وفِى تقديرى أن المرشح للتغيير هذه المرة لن يكون فقط الجمهوريات التى شهدت صعود وأفول الثورات العربية فى الموجة السابقة بل أيضا الدول التى نجحت حتى الآن فى تجنبها لأن الاحباط بين الشباب العربى ظاهرة جامعة وإن كان لأسباب مختلفة.
التغيير قادم إذن ولو بعد حين. والمهم ألا يأتى بفوضى أو عنف أو مواجهات فى الشوارع كما جرى من قبل لأن الفوضى هذه المرة ستؤدى للتفكك والاقتتال والانهيار فى تلك البلدان العربية التى تجنبت هذا المصير من قبل، وهو ما لا يتمناه أحد.
ولكن لكى يكون التغيير القادم سلميا، تدريجيا، وتوافقيا بما يحقق مصالح الناس ويحفظ وحدة واستقرار الدول فلابد أن يستند إلى قدرة الاطراف الرئيسيّة على التفاوض على مسار مقبول من الجميع. وفى تقديرى أن الذى يمكن أن يدفع جميع الأطراف للسعى إلى مثل هذا التغيير السلمى والتوافقى أمران. الأول أن تقتنع النظم الحاكمة بأن الأساليب الحالية، مهما أثبتت فاعلية على المدى القصير، لن تحقق لها الاستقرار المنشود بل ستؤدى لموجة ثانية من غضب الجماهير. والثانى أن يعود الوعى والثقة لدى الناس، وبالذات الشباب منهم، باهمية النشاط السياسى والعمل على بناء أحزاب جديدة، مهما كانت العوائق والتحديات التى تعترض طريق العمل الحزبى، لأن التغيير المنشود لن يتحقق بمجرد الاحتجاج، ولا بالتنفيس عن الغضب على صفحات التواصل الاجتماعى، ولا بانتظار تدخل أطراف أجنبية فى شئوننا الداخلية.
أكيد أن المناخ العام والقوانين السارية لا تشجع العمل السياسى ولا الحزبى فى أى مكان فى الوطن العربى، بل وتمنع فى بعض بلدانه مجرد محاولات التنظيم والتعبير عن الرأى. ولكن من جهة أخرى فإن نجاح التجارب الحزبية لا ينبغى أن يرتبط بمباركة ودعم الحكومات، أو بتحقق ظروف مواتية مسبقة، بل على المهتمين بإعادة الحياة الحزبية العمل على كسب مساحات ومصداقية مع الناس أولا كى يمكنهم فرض وجودهم وإسماع أصواتهم حتى لمن لا يرغب فى الاستماع.
أتمنى أن تنتهى التطورات الجارية فى الجزائر والسودان إلى نتائج إيجابية، تعطى الوطن العربى نموذجا يحتاجه للانتقال السلمى نحو حكم ديمقراطى عادل. ولكن حتى لو تعثرت التجربتان، كما تعثرت تجارب أخرى من قبلهما، أو لم تفضيان لنهايات سعيدة، فإن الذى لن يتغير هو أن حالة القلق السائدة فى المنطقة العربية، والخوف من احتجاج الجماهير فى أى لحظة فيها تخرج عن السيطرة، سيظلان قائمين، وهذا وضع ليس فى مصلحة أحد أن يستمر، لا الحاكم ولا المحكوم، وعلينا التعاون والتفاهم لوضع نهاية له.