ردًا على استهداف إسرائيل قنصليتها بدمشق؛ وتوخيًا لاستعادة صدقية استراتيجيتها الردعية، وترميم هيبتها لدى «محور المقاومة» ومحيطها الإقليمى؛ شنت إيران هجومًا مركبًا ضد العمق الإسرائيلى. ففى سابقة، هى الأولى من نوعها، أمطرت طهران، وعلى نحو مباشر، الأراضى الإسرائيلية، بمئات المسيرات والصواريخ، من قواعد داخل إيران ومنصات تابعة لها فى سوريا والعراق.
جاء هجوم إيران الانتقامى، الذى اعتبرته دفاعًا شرعيًا عن النفس، بموجب المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة، بعد ثلاثة عشر يومًا من الاستهداف الإسرائيلى لقنصليتها بدمشق. وبتبنيها الهجوم، الذى أسمته عملية «الوعد الحق»، تكون طهران قد تخطت قواعد الاشتباك وتجاوزت الخطوط الحمر المتعارف عليها، فى حروب الظل المستعرة، بينها وبين إسرائيل، منذ بضع سنين.
ألمحت دوائر إسرائيلية وغربية إلى إخطار واشنطن وتل أبيب، مسبقا، بطبيعة وتوقيت الضربات. فلقد هرع قائد القيادة الوسطى الأمريكية إلى إسرائيل للتنسيق، بينما قطع بايدن إجازته الأسبوعية واجتمع بمجلس الأمن القومى، لاتخاذ التدابير الكفيلة بصد الهجوم الإيرانى، والحيلولة دون تصعيد الأمور إلى مستوى المواجهة المباشرة، أو الحرب الإقليمية الشاملة. وبجريرة الإخطار المسبق بوقت كاف، تسنى للدفاعات الجوية الأمريكية المنتشرة فى عشرات القواعد الجوية بالمنطقة، والتى تعاونها مقاتلات بريطانية وفرنسية، تحييد جُل المسيرات والصواريخ الإيرانية، فى أجواء سوريا والعراق، قبل وصولها إلى إسرائيل.
فى محاولة منها لإفساح المجال أمام إسرائيل وحلفائها الأمريكيين والبريطانيين والفرنسيين لاحتوائه بأقل خسائر ممكنة، استهلت إيران هجومها بالمسيرات، التى يستغرق وصولها إلى إسرائيل عدة ساعات، ثم أتبعتها بصواريخ كروز، التى تحتاج إلى ساعتين لبلوغ العمق الإسرائيلى، ثم ألحقتها بالصواريخ الباليستية، التى تصل الأراضى الإسرائيلية فى غضون دقائق معدودات.
باستثناء محاولة استهداف قاعدة جوية إسرائيلية بصحراء النقب، تركز الهجوم الإيرانى، بالأساس، فى هضبة الجولان السورية المحتلة، التى تعتبرها طهران أرضا سورية وليست إسرائيلية.ما يشى بنية إيرانية لتجنب إيذاء إسرائيل فى عقر دارها، حتى لا تضطر إلى الرد على نحو أكثر إيلاما.
جاء الهجوم الإيرانى "مركبا". ولهذا المصطلح الاستراتيجى أبعاد لوجيستية، عسكرية، وجيوسياسية. فلوجيستيا، تشن إيران الهجوم بمشاركة وكلائها ؛حيث أطلق حزب الله، من جنوب لبنان مئات الصواريخ من طراز"كاتيوشا" ضد شمال إسرائيل، وبعض القواعد الإسرائيلية فى الجولان السورى المحتل. وذلك بهدف إشغال انا لدفاعات الجوية الإسرائيلية، لإفساح المجال أمام عبور الصواريخ والمسيرات القادمة من إيران وسوريا والعراق. وعسكريا، يتضمن الهجوم استخدام منظومات تسليحية هجومية متنوعة، مثل الصواريخ الباليستية، صواريخ كروز، صواريخ مجنحة، وطائرات مسيرة متنوعة المهام. أما جيوسياسيًا، فيستهدف الهجوم مواقع متنوعة وأصول متباعدة داخل إسرائيل.
رغم كونه رمزيًا، إذ لم يخلف أية خسائر مادية أو بشرية تذكر، لن تدخر إسرائيل وسعًا فى استثمار ذلك الهجوم الإيرانى لحصد مغانم استراتيجية شتى. فعسكريًا، ستتحصل على مساعدات عسكرية أمريكية وأوربية متطورة، بذريعة التصدى للتهديدات الإيرانية المتنامية. ودبلوماسيًا، لن تتوان إسرائيل عن انتزاع مؤازرة من مجلس الأمن الدولى لها، بما يوفر غطاءً سياسيًا وقانونيًا لأى رد محتمل على الهجوم الإيرانى فى مقبل الأيام. ودعائيًا، ستتفنن إسرائيل فى إظهار نفسها للعالم بوصفها ضحية «للعدوان الإيرانى»، بما يعينها على ترميم سمعتها المهترئة، وتحسين صورتها المشوهة، عالميًا، جراء الجرائم التى تقترفها بحق الفلسطينيين منذ السابع من أكتوبر الماضى.
ناشدت إدارة بايدن إسرائيل عدم الرد على الهجوم الإيرانى، تجنبًا لتصعيد الأوضاع الملتهبة أصلًا فى منطقة الشرق الأوسط، وحتى يتم تبريرالدعم العسكرى والتكنولوجى والمالى، الذى سينهال على إسرائيل عقب تلك الضربة. تبتغى واشنطن كذلك، مساعدة النظام الإيرانى على تعظيم حظوظه فى الاستمرار، فمن شأن فشل الصواريخ والمسيرات الإيرانية فى تحقيق «الرد المنضبط غير التصعيدى»، بغية استعادة الردع المسلوب، دون الانجرار إلى مواجهات عسكرية مباشرة مع إسرائيل وأمريكا، أن يهز الثقة فى سياسات طهران التسليحية، لا سيما البرنامج النووى، برنامج تطوير الصواريخ الباليستية، والمسيرات. والتى يستمد منها النظام قسطًا هائلًا لشرعيته، بينما تستنزف موارد البلاد، وتضعها فى براثن العقوبات المتواصلة، وتجعلها فى مرمى الاستهداف الإسرائيلى المتكرر. كما ترنو واشنطن إلى استبقاء تهديدات النظام الإيرانى المتواصله لمحيطه الإقليمى. بما يعزز الوجود العسكرى الأمريكى فى المنطقة، ويتيح لواشنطن فرص الابتزاز الاستراتيجى لحلفائها وأصدقائها الشرق أوسطيين.
كأننا ببايدن، وقد مضى على درب الرئيس الأمريكى الأسبق، جورج بوش الأب. فإبان عاصفة الصحراء، التى قادت خلالها الولايات المتحدة تحالفًا دوليًا لتحرير الكويت من الاحتلال العراقى، فى يناير 1991، أقدم الرئيس العراقى، حينها، صدام حسين، على استهداف العمق الإسرائيلى بثلاثة وأربعين صاروخًا من طراز سكود. وبينما ادعت إسرائيل، وقتها، أن صواريخه ضلت طريقها وسقطت فى العراء، بسبب قصور فى أنظمة التوجيه، عادت واعترفت فى العام 2001، بأنها أسفرت عن مقتل 14 إسرائيليًا وإصابة عشرات آخرين، كما خلفت خسائر مادية.
غير أن إدارة، بوش الأب، الحريصة على عدم انفراط عقد التحالف الدولى، بما يمنح صدام فرصة ذهبية لإعادة التموضع. والراغبة فى تجنب انفجار حرب موازية تفسد عملية تحرير الكويت، والإعلان عن ميلاد نظام عالمى أحادى القطبية بقيادة الولايات المتحدة؛ أجبرت إسرائيل على ممارسة ضبط النفس، والامتناع عن الرد. وما إن امتثلت حكومة، اسحق شامير، للتوجيه الأمريكى، حتى انهالت عليها المساعدات المالية والعسكرية الأمريكية، لا سيما بطاريات باتريوت المتطورة للدفاع الجوى. فيما دشن الإسرائيليون والأمريكيون مشاريعهم الطموحة لتطوير منظومات الدفاع الجوى متعدد الطبقات، لتحصين سماء إسرائيل ضد مختلف أنواع الصواريخ والطائرات الحربية والمسيرات.
رقم استيائهم من بلوغ صواريخ إيران ومسيراتها العمق الإسرائيلى، يعول الأمريكيون والإسرائيليون على تحديات لوجيستية وجيوسياسية واستراتيجية عديدة، تحول دون تكرار هذا الأمر. فقد لا يتيسر لإيران عدد ملائم من الصواريخ والمسيرات، دقيقة التوجيه، قادرة على بلوغ إسرائيل، وتحقيق الكثافة النيرانية الكفيلة باختراق منظوماتها الدفاعية المتطورة. ناهيك عن انكماش العمق الإسرائيلى، المحصن بمنظومات دفاع جوى متعددة الطبقات، تنسق مع نظيراتها الأمريكية. فضلًا عن بعد المسافة بين إيران وإسرائيل، بما يتيح لتلك المنظومات زمنًا معقولًا لتحييد الصواريخ والمسيرات الإيرانية.
إلى جانب الدعم الأمريكى والأوربى، مارست إسرائيل ردعًا ممتدًا ضد إيران، إذ أبلغ الإسرائيليون واشنطن بأنه فى حال شنت إيران هجومًا من أراضيها ضد العمق الإسرائيلى، انتقامًا لاستهداف القنصلية الإيرانية بسوريا، فإن تل أبيب ستقوم برد قوى، فى بقاع عديدة، يأخذ المرحلة الحالية إلى مستوى أبعد. ومؤخرًا، أجرى سلاح الجو الإسرائيلى تمرينًا جويًا بالتعاون مع نظيره القبرصى، يُحاكى هجومًا على أهداف متنوعة داخل إيران.
بموازاة الجهوزية، والإرادة الجادة، يتطلب نجاح استراتيجية الردع الوطنى الإيرانى، دعم الجبهة الداخلية واصطفافها خلف قياداتها. وهو الأمر الذى يكاد يتعذر توفره، بالمستوى المطلوب، فى الحالة الإيرانية. فعقب الرد الأخير، رحبت قطاعات منه بما اعتبرته مؤشرًا جادًا على تخلى النظام عن سياسة «الصبر الاستراتيجى»، التوقف عن التمترس خلف «استراتيجية الضربة الثانية»، الإقلاع عن الردع الشفهى، أو اللا متماثل، والتحرر من أغلال الرغبة فى تلافى الصدام المباشر مع واشنطن أو تل أبيب. بيد أن ثقة غالبية الإيرانيين فى نخبتهم الحاكمة، بدأت تتآكل بوتيرة مقلقة. فعلاوة على القمع والاستبداد، يعتقد إيرانيون كُثُر أن نظامهم يقامر بعسكرة سياسته الخارجية، وتوريط البلاد والعباد فى صراعات غير مبررة، وأزمات مفتعلة. حيث يبتغى تأبيد بقائه فى الحكم، رغم إخفاقه فى حماية سيادة البلاد، وإدارة مقدراتها، بما يضمن حياة أفضل لشعبها، الذى يكابد الفاقة، رغم ثروات بلاده الهائلة. فلقد أفضت سياسات النظام الصدامية، إلى إبقاء البلاد تحت طائلة العقوبات الدولية والأمريكية، ما أفقدها هيبتها وسيادتها، وحرم شعبها من تحقيق الاستفادة المثلى من مواردها.