تواجه بلادنا ومثلها كثير فى العالم النامى، ظروفا نمطية وإن كانت تبدو للناظر من بعيد، غير مسبوقة. هى ظروف العسر المالى الشديد، فى بيئة دولية قلقة، مسكونة بعدم اليقين العميق.
وليس ما تواجهه بلادنا بجديد، بل هو قديم، وقديم جدا، بصفة نسبية بالطبع، عبر الزمن، فهو يعود إلى نصف قرن تقريبا وزيادة، ذلك منذ منتصف سبعينيات القرن المنصرم إلى حد بعيد. حينذاك كانت «الحرب العالمية الثانية» فقد وضعت أوزارها منذ زمن، على وقع تغيرات سبقتها وأخرى لحقتها، وكان لها آثار غير مسبوقة على الصّعُد الداخلية والخارجية لمختلف الوحدات الأساسية فى النظام العالمى. ولقد سبقتها قبل ذلك بكثير أزمة اقتصادية طاحنة، ذات طابع كسادى وانكماش عميق (1929ــ33)، اتسمت بركود غير مسبوق إلى حد كبير، ناتج عن انخفاض مستويات الطلب بفعل تدنىّ مستويات الدخول والإنفاق، فى خضم تذبذبات وانهيارات فى أسواق المال والنقد والسلع على كافة المستويات.
ولما قامت تلك الحرب كانت زيادة الإنفاق العسكرى مهمازا قويا لاستمرارية النشاط الحربى، والنشاط الاقتصادى عموما.
كانت سياسة مواجهة أزمة الكساد العالمى الكبير، قد اكتست ثوبا بالغ الخصوصية، من خلال تعظيم الإنفاق العام، والسياسات المالية النشطة، والسياسة النقدية القائمة على الموازنة الدقيقة للسيولة.
فلمّا أن تقشع غبار الحرب العالمية الثانية، ظلت السياسات المالية والنقدية على حالها تقريبا، من نزعة «توسعية» أو «إنعاشية»، قائمة على مهماز الإنفاق العام والسيولة النقدية. تلك سميت، نسبة للمفكر الفذّ الذى بذل جهدا علميا راقيا فى بلورتها (جون ماينارد كينز)، بالسياسة «الكينزية»، أو ذات الطابع «الكينزى» ثم «بعد الكينزى».
هكذا دخلت أوروبا بالذات، والولايات المتحدة الأمريكية من قبلها، فى خضم لون جديد من ألوان السياسة الاقتصادية، قائمة على التوسع فى الإنفاق، خاصة الإنفاق الاجتماعى، فيما أطلق عليه «سياسات دولة الرفاهة» WelfareــState.
تلك كانت سمة العصر الجديد، الذى قدّر له أن يغطى ثلاثة عقود زمنية تقريبا (من منتصف الأربعينيات إلى منتصف السبعينيات من القرن المنصرم). ولكن ما أن انتصف العقد السبعينى العتيد، حتى برزت موجة جديدة، لعلها غير مسبوقة خلال أمد زمنى طويل، من موجات «الدورات الاقتصادية» التى درجت غالبا على أن تكون إما دورة تضخم وإما دورة ركود، وسميت الموجة الجديدة تلك اسما هجينا، يجمع بين حدّين متناقضين، فإذا هى أزمة «التضخم الركودى» أو «الركود التضخمىstagflation». كانت هذه الموجة نتاجا مباشرا للأزمة المصاحبة لفورة أسعار النفط بعد حرب أكتوبر 1973، ومن ثم ارتفاع تكاليف الطاقة، وتعاظم مستويات الدين العام للدول الفقيرة ومتوسطة الدخل بالذات.
• • •
تلفّت صانعو السياسة الاقتصادية فى دول المركز الرأسمالى الغربى بالذات، وخاصة بعد انفجار أزمة الدين العالمى، ومن ثم عدم القدرة على السداد، من جانب بعض أكبر المدينين فى العالم (المكسيك) فارتأوا الاستدارة استدارة كاملة، على أعقابهم، بالتحول من النقيض إلى النقيض من سياسات «دولة الرفاهة» إلى سياسات «التقشف» Austerity. وذلك ما كان حيث تم اعتماد أعمدة جديدة للسياسات الاقتصادية، واعتماد «وكيل» أو «فاعل» جديد للسياسة الاقتصادية على المستوى العالمى، وكان ذلك هو «صندوق النقد الدولى»، وإذا بهذا الفاعل الجديد وليد اتفاقات «بريتون وودز» لعام 1944 المستهدف تحقيق توازنات أسواق المدفوعات والصرف على قاعدة الدولار القابل للتحول إلى ذهب، يتحول (بقدرة قادر) إلى وكيل عن العالم المركزى الغنّى، لتنظيم أسواق المال والنقد العالمية، بغية السعى إلى «التوازن» عند مستوى التقشف المنشود.
كانت تلك سياسة جديدة، أطلق عليها، السياسة «الإرثوذكسية» (التقليدية) حينا، ولكن تسميتها بالليبرالية الجديدة كان هو الأكثر شيوعا. ليست ليبرالية قديمة من الطراز السائد فى القرن التاسع عشر، ولكنها جديدة قوامها عودة ــ وإن تكن غير حميدة ــ إلى «تقديس» من نوع معين لفاعلية آلية السوق الحرة: العرض والطلب، والدور المحورى، شبه الوحيد، لاقتصاد المشروع الخاص، فيما أطلق عليه من بعد مسمى «الخصخصة» إلى جانب سياسات اقتصادية مساندة قومها جناحان: خفض الإنفاق العام، لاسيما الاجتماعى، وخفض قيمة العملة المحلية إزاء العملات القوية.
وكان ما كان، أن دخلت البلدان النامية عموما، فى جُبّ الركود، العميق أو غير العميق، تحت وطأة أزمة الاستدانة العالية، وارتفاع تكاليف الطاقة والإنتاج، وكان من بينها جمهورية مصر العربية، الذى قدر لها أن تدخل «الأزمة الاقتصادية العالمية» لعقد الثمانينيات (من أوسع أبوابها)، وأن تلجأ إلى «المنقذ» «الموكل» من العالم المركزى بإدارة اقتصادات البلدان الفقيرة والمدينة، وهو «صندوق النقد الدولى»، وربيبه «البنك الدولى».
حينذاك، وقعت مصر فى مايو 1991 أول اتفاق مع «الصندوق» لتحقيق ما يسمى بالاستقرار أو التثبيت Stabilization أو «إعادة الهيكلة» باتجاه إضفاء ما يشبه طابع القداسة على «التقشف» والدور المركزى للقطاع الخاص، وتقليص دور الحكومة، وخفض العملة المحلية فى أتون سياسات الصرف.
• • •
ظل الحال على هذا المنوال، فى مصر وغير مصر، فى عموم القارات الثلاثة لأفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، ربما باستثناء شطر مهم من منطقة «شرق آسيا»، حتى أصبحت «الليبرالية الجديدة» بمثابة العقيدة الاقتصادية الجديدة التى لا تدانيها عقيدة أخرى.
على هذا النسق، سرت السياسات الاقتصادية «الليبرالية الجديدة» مسرى الروح فى الجسد العليل، تحت وطأة اللجوء إلى الاستدانة ثم المزيد من الاستدانة، لتغطية فجوات التمويل العام غير القابل للتغطية بالموارد المحلية.
وكان «صندوق النقد الدولى» خير وكيل للسياسات «الليبرالية» باعتباره «البوابة الملكية» لعبور المحيط نحو «توافق واشنطن» Washington Consensus المكون من ثلاثى الصندوق والبنك والإدارة الأمريكية الممثلة فى «مجلس الاحتياطى الفيدرالى».
وارتبط، كما هو معلوم، شلال الدين الخارجى المجلوب بتنفيذ برامج لإعادة التكيف والهيكلة سميت SAP Structural Adjustment Program هدفها الوحيد تقريبا تحقيق «الانضباط المالى» أى توازن الموازنات العامة وميزانية النقد الأجنبى، انطلاقا من روح «التقشف» العتيد.
وأما مهماز «الانضباط المالى» على النحو المذكور، فهو ما يعتبر بمثابة السياسة «النقدية التشديدية» أو «التقييدية» القائمة على خفض قيمة العملة المحلية، من جهة أولى، ورفع أسعار الفائدة، من جهة ثانية تحت لواء «استهداف التضخم». ذلك ما اعتمدته جمهورية مصر العربية، على سبيل المثال أو على سبيل التخصيص، لاسيما بعد 2018. وهذا ما تجلى خلال السنوات الأخيرة، مع التوسع فى إصدار السندات الدولية، وتعاظم الدين العام المحلى، وارتفاع غير مسبوق فى حصة خدمة الدين العام المحلى من إجمالى الإنفاق الكلى المحلى.
وقد استمر التغلغل المستمر للسياسات «الصندوقية» المدعومة ببرامج «التكيف»، مع تعمق السياسات القائمة على مزدوجة «الانضباط المالى» من خلال التقشف والتشديد النقدى من خلال رفع أسعار الفائدة (لامتصاص السيولة وتعقيم النقود وتكميش الإنفاق الاستهلاكى والاستثمارى معا) عائليا كان أم حكوميا. وقد بدا من خلال ذلك أن «الانضباط والتشديد» يؤديان ــ ربما ــ إلى مزيد من تعميق أزمات الاقتصاد الكلى بدلا من حلها.
وبذلك يبدو لنا أنه من الضرورى إحداث تغيير جذرى فى التوجه العام للسياسة الاقتصادية الكلية فى مصر، وغيرها من أمثالها، بالتركيز على التوسع فى الإنفاق على البنية الاستثمارية المنتجة، وعلى الاستهلاك الأساسى.
وإنه بدلا من التوسع فى الاستدانة الخارجية والدين العام المحلى، يكون الأنسب تشجيع الإنفاق العام والخاص على توسيع الطاقات الإنتاجية، الزراعية والخدمية، جنبا إلى جنب التعميق الصناعى Industrial Deepening وتحقيق المرونة فى سلاسل التوريد، وتعميق سياسة «إحلال الواردات» مع التوسع الانتقائى فى الصادرات.
• • •
ذلك إذن ما ندعو إليه اليوم بالصوت العالى: ليس الانضباط المالى فى حد ذاته، ولكن الإنعاش والتوسع، وليس التقييد بمجرد رفع أسعار الفائدة، وخفض سعر الصرف، ولكن التوصل إلى مستوى متناسب ومعقول للفائدة وللعملة المحلية. كل ذلك، استهدافا، ليس للتضخم فى حد ذاته، ولكن استهداف احتمالات الركود المتأصل، النابع من ضيق قاعدة الناتج المحلى الإجمالى، والطاقات الإنتاجية المحلية، سعيا إذن إلى التدرج فى طريق الرفاهة العامة، وتنويع هيكل الإنتاج، علميا وتصنيعّيا.
من ثم يكون الطريق المُفضى إلى التنمية الحقة، هو طريق التوسع وليس الانكماش، وهو المرونة، وليس مجرد الانضباط، وهو توسيع مجالات الحركة، وليس مجرد «التشديد التقييدى العقيم».