خسرت واشنطن إيران منذ أكثر من ثلاثين عاما، وأظهرت تركيا خلال السنوات العشر الأخيرة أنها دولة لا يمكن لواشنطن أن تعتمد عليها، ولم يتبق لواشنطن سوى مصر!
يرى منظرو الاستراتيجية الدولية أن هناك ثلاث دول فقط محورية فى منطقة الشرق الأوسط تتوافر لديها عناصر القوة الحقيقية. تتمتع كل من تلك الدول بوجود كتلة سكانية كبيرة تتعدى الثمانين مليونا، أغلبهم من الشباب، إضافة لوجود جيش كبير جيد التسليح وجيد التدريب، وحضارة قديمة يفخر بها أبناء هذه الدول فى صور عديدة، إضافة لقدر معقول من عناصر القوة الناعمة الثقافية والأدبية واللغوية والدينية. تركيا وإيران ومصر، تلك هى الدول التى ينظر العالم إليها فى منطقتنا كدول محورية. ويرى روبرت ساتلوف من معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى أن موقع هذه الدول وتحكمها فى ممرات مائية استراتيجية بالغة الأهمية للعالم أجمع، قناة السويس ومضيق هرمز وخليج البوسفور، يزيد من أهميتها الخاصة للولايات المتحدة. لذا وجدنا كل الامبراطوريات على مر التاريخ تسعى إلى الحفاظ على علاقة خاصة معها أو السيطرة عليها. فى الوقت نفسه يسمح النطاق الجغرافى لكل دولة منها بممارسة نفوذ إقليمى إن توفرت القيادة السياسية التى تدرك أهمية وقدرات دولها.
ومنذ نهاية سبعينيات القرن الماضى، ومع نجاح الثورة الإيرانية بزعامة آية الله الخومينى فى إقامة دولة إسلامية يلعب فيها رجال الدين الدور الأهم فى عملية الحكم، ناصبت الولايات المتحدة والغرب إيران العداء حتى يومنا هذا، وهكذا خسرت أمريكا إيران بعدما كانت تجمعها بها علاقات استثنائية خاصة جدا أثناء حكم الشاه محمد رضا بهلوى. وتحاول القيادات الإيرانية المتعاقبة بسط النفوذ الفارسى على الدول المجاورة مثل أفغانستان والعراق وأذربيجان، ودول الخليج، ووصولا لسوريا ولبنان، كما يسعون لبناء برنامج نووى عسكرى.
أما تركيا، وهى الدولة الإسلامية الوحيدة التى تتمتع بعضوية كاملة فى حلف شمال الأطلنطى المعروف باسم «الناتو»، فقد سعت للدوران فى فلك الحليف الأمريكى منذ منتصف القرن الماضى، وجمعتها علاقات خاصة مع إسرائيل، وسعت دوما للانضمام للاتحاد الأوروبى دون نجاح.
وضمن حكم العسكريين ضمان استمرار العلاقات الخاصة مع واشنطن. إلا أنه ومع نجاح حزب العدالة والتنمية التركى، ذى المرجعية الإسلامية، برئاسة رجب طيب أردوجان عام 2002 فى الوصول للحكم، يرى البعض أن هناك أحياء معاصرة «للدولة العثمانية»، ويطلق البعض على حكام تركيا «العثمانيون الجدد». ويؤكد وزير الخارجية أحمد داود أوغلو نفسه ذلك إذ قال «نعم نحن العثمانيين الجدد، لذا نجد أنفسنا ملزمين بالاهتمام بالدول الواقعة فى منطقتنا». وخلال السنوات الأخيرة تدهورت علاقات تركيا بإسرائيل من ناحية، وعادت بقوة تنفتح على العالم العربى من ناحية أخرى. كما أنها تعارض التشدد الأمريكى مع إيران، وتحاول الوصول لحل دبلوماسى، إضافة لبسط النفوذ التركى فى محيطها الإقليمى من سوريا مرورا بالعراق، ووصولا إلى العديد من دول أسيا الوسطى.
أما مصر، فقد أثبتت خلال سنوات حكم الرئيس السابق أنها دولة حليفة يمكن لواشنطن أن تطمئن لها وعليها. وأصبحت مصر عنصر استقرار إقليمى يخدم بصورة مباشرة وغير مباشرة المصالح الاستراتيجية للولايات المتحدة فى الشرق الأوسط. وضمن ذلك لواشنطن قيام واستمرار تعاون أمنى وعسكرى واستخباراتى على أعلى المستويات. وكانت حرب الخليج الثانية إبان غزو العراق للكويت عام 1990 تجسيدا حيا لما يمكن لمصر وجيشها القيام به لخدمة مصالح واشنطن. ثم كانت الحرب الأمريكية على الإرهاب عقب هجمات 11 سبتمبر شاهدا على الوزن الكبير للتعاون الاستخباراتى والأمنى بين الدولتين.
لقد خرج تحالف القاهرة مع واشنطن من رحم موقف السادات ومبارك من عملية سلام الشرق الأوسط. لذا كانت اتفاقيات كامب ديفيد ومعاهدة السلام بين مصر وإسرائيل هى حجر الأساس الذى أوجد «معسكر الاعتدال العربى» المتعاطف مع السياسات الأمريكية فى المنطقة، بقيادة مصر وعضوية السعودية والمغرب ودويلات الخليج. إلا أن قيام ونجاح ثورة 25 يناير مثل تهديدا كبيرا للمسلمات القديمة.
ومن هنا جاءت أهمية زيارة وزيرة الخارجية الأمريكية هيلارى كلينتون ومقابلتها للرئيس المصرى الجديد، الدكتور محمد مرسى، فى إطار السعى الأمريكى الدءوب منذ سقوط الرئيس السابق لمعرفة توجهات مصر الخارجية الجديدة، واحتواء أية محاولات للخروج عن النص الأمريكى الذى طبقته مصر جيدا خلال العقود الأربعة الماضية. لهذا السبب واتباعا لذلك النص الأمريكى المهيمن على العلاقة تريد واشنطن أن تعرف كيف سيتواصل الرئيس المصرى الجديد مع قادة إسرائيل؟ هل سيقابلهم وجها لوجه؟ هل سيرد على محاولات اتصالهم به؟ وهل سيستمر ويدعم خصوصية علاقات واشنطن بالقاهرة؟
ويقلق واشنطن أيضا عدم معرفتها بالنخبة المصرية الجديدة التى سيكون لها دور متزايد فى صنع السياسة الخارجية فى رئاسة محمد مرسى، خاصة فيما يتعلق بملف إسرائيل، وملفات التعاون الأمنى، خاصة أنها كانت تعرف بدقة صانعى تلك السياسات فى عهد مبارك.
وزيارة كلينتون ليست فريدة من نوعها، فمنذ 11 فبراير 2011 شهدت القاهرة زيارات غير مسبوقة فى عددها لكبار المسئولين الأمريكيين من وزارة الخارجية، إلى وزارة الدفاع، ومرورا بكبار قادة الكونجرس.
واشنطن تخشى خسارة الحليف المصرى، وذلك على الرغم مما تكرره من تهديدات قطع المساعدات العسكرية لمصر. لم تجرؤ واشنطن على هذه الخطوة قبل الثورة، ولن تقدم عليها بعد الثورة.
تعديلات مشروع الميزانية الفيدرالية الخاصة بالعام المالى 2012 ـ 2013، التى تضمنت للمرة الأولى شرط «علانية ميزانية الشرطة والجيش المصرى وتوافر رقابة مدنية عليهما» ليس له أى قيمة سوى الاستهلاك المحلى داخل واشنطن.
حسابات واشنطن الجادة يستحيل معها المساس بهذه المساعدات، خاصة مع تقديرها الكبير لتفهم الجيش المصرى للعقيدة العسكرية الأمريكية، واعتماده فى تسليحه على التكنولوجيا والعتاد الأمريكى. لا تريد أن تتخيل واشنطن وجود جيش مصرى يسعى للحصول على سلاح نووى مثل نظيره الإيرانى. ولا تتخيل واشنطن جيشا مصريا لديه موقف رمادى من قضية الحرب على الإرهاب مثل الجيش الباكستانى. وقطعا لا تريد واشنطن جيشا مصريا يحصل على سلاحه من دول أخرى منافسة مثل روسيا أو الصين، أو حتى صديقة مثل فرنسا وبريطانيا.
من هنا ينتظر الرئيس مرسى تحديات خارجية كبيرة تتعلق بكيفية إعادة الريادة الإقليمية التى تخلت عنها مصر طواعية خلال حكم الرئيس السابق. وهل يمكن لمصر الديمقراطية أن يكون لها سياسة خارجية مستقلة؟ وهل سيكون ذلك على حساب خسارة واشنطن للحليف المصرى؟ أم يمكن أن توجد معادلة جديدة للعلاقات المصرية الأمريكية تخدم مصالح الدولتين، ولا تخدم فقط مصالح واشنطن.