إن تاريخ إصاباتى بخيبة الآمال (أقصد الآمال السياسية لا الشخصية)، وتكرار ذلك المرة بعد الأخرى، عمره أكثر من ستين عاما. وسأحاول أن أسرد للقارئ هذا التاريخ باختصار، عسى أن نكتشف منه أى درس، خاصة أن تكرر خيبة الآمال السياسية لا يتعلق بى وحدى. ربما تكون القصة قد استمرت معى أطول مما استمرت مع غيرى، ولكن السبب على الأرجح هو أننى أكبر سنا من معظم قراء هذا المقال.
فمن أوائل ما أتذكره من صعود الآمال ثم انهيارها، ما يعود إلى سنة 1950، وما تلاها من أحداث حتى انتهت بحريق القاهرة فى يناير 1952. كنت حينئذ صبيا فى سن المراهقة، ولكننى تحمست بشدة لفوز حزب الوفد فى انتخابات 1950، ثم تشكيله للحكومة، كان هذا حدثا فريدا من نوعه فى هذه الفترة من القرن العشرين، حيث كان الملك يعتبر حزب الوفد ألد أعدائه، وكانت زيادة شعبية مصطفى النحاس، رئيس الوفد فى ذلك الوقت، معناها انتقاص شعبية الملك وسلطانه، ومن ثم عمل الملك دائما على ألا يصل النحاس إلى الحكم، بتزوير الانتخابات مرة، أو بإقالة الحكومة وحل البرلمان الذى أتى بها فى انتخابات نزيهة...إلخ. ولكن مثل هذا العمل لم يكن متاحا للملك فى 1950، لسبب أو آخر، فتمت انتخابات نزيهة، وجاء النحاس ومعه حكومة من الرجال المعروفين بالوطنية والنزاهة والإخلاص فى السعى لتحقيق الاستقلال من النفوذ البريطانى وانهاء الاحتلال.
ارتفعت آمالنا بشدة لهذا السبب، ولكن لا الملك ولا الإنجليز استطاعا الصبر على حكومة من هذا النوع، فدبر حريق القاهرة بعد أقل من سنتين من مجئ هذه الحكومة، وأقال الملك الحكومة «حفاظا على أمن البلاد»، وجاءت سلسلة من حكومات أحزاب الأقلية التى لا تتمتع بأى شعبية.
خاب أملنا إذن فى تلك الشهور الأولى من 1952، حتى قامت الثورة فى يوليو فارتفعت آمالنا إلى عنان السماء، لولا أن خلافا دب بين قادة الثورة فى مارس 1954، فأصابنا القنوط حتى قام عبدالناصر بتأميم قناة السويس فى 1956 فارتفعت آمالنا من جديد، استمر تفاؤلنا بحكم عبدالناصر لفترة أقل من عشر سنوات. إذ حتى من قبل وقوع هزيمة 1967، كانت سحب كثيفة تتجمع فى الأفق، ابتداء من أوائل الستينيات، من انفصال سوريا عن مصر فى 1961، إلى خسائر كبيرة فى حرب اليمن، ثم تقليص كبير فى المعونة الأمريكية فى 1965 حتى توقفت توقفا تاما فى 1967.
كثير منا عاش فترة القنوط الشديد الذى سيطر على المصريين فيما بين هزيمة 1967 وعبور الجيش لقناة السويس فى ١٩٧٣، ولكن الفرح بهذا العبور لم يستمر أكثر من أسابيع قليلة تلاها ما سمى «بالثغرة»، أى عبور قوات إسرائيلية إلى غرب القناة ومحاصرتهم للجيش الثالث فى سيناء، ولم تنجح الاتفاقات السياسية المتتالية بين مصر وإسرائيل والتى انتهت باتفاقية كامب دافيد فى 1979، فى تبديد خيبة آمال المصريين فى تحقيق نهضة سياسية واجتماعية تقوم على استقلال حقيقى.
بلغ القنوط أقصاه فى نهاية حكم السادات، عندما أغلق صحف المعارضة، واعتقل المعارضين من مختلف التيارات السياسية والفكرية، وانتهى الأمر بمقتله فى 1981. لم يكن حسنى مبارك، الرئيس التالى، من النوع الذى يثير حماسة المصريين ويرفع مستوى طموحاتهم، إذ لم تتوفر له صفات الزعامة المطلوبة، وكان على أى حال نائبا للرئيس السابق دون أن يبدو منه أى دليل على أن له اتجاها مختلفا عن اتجاه ذلك الرئيس، أو أى رؤية للإصلاح من أى نوع. ومع ذلك فقد تفاءلنا بثلاثة أعمال قام بها بمجرد توليه الحكم فى نهاية 1981: الافراج عن كافة المعتقلين السياسيين، والسماح بعودة صحف المعارضة إلى الصدور، وعقد مؤتمرا اقتصاديا كبيرا يضم كثيرا من الاقتصاديين الوطنيين من مختلف الاتجاهات لتحديد رؤية جديدة لإخراج الاقتصاد المصرى من أزمته. ولكن حتى هذا التفاؤل المشوب بالحذر والحيطة، لم يستمر أكثر من عام واحد، إذ سرعان ما تبين أن الحرية التى ستمنح للمعارضة فى نظام مبارك، مزيفة مثلما كانت فى ظل السادات، وأنه ليست هناك أى نية لتحقيق نهضة اقتصادية من أى نوع، بل سيستمر نظام الانفتاح غير المنضبط الذى بدأه السادات دون أى تغيير، سواء كان رئيس الحكومة على أتم الاستعداد لتنفيذ أى طلبات، تأتى من صندوق النقد الدولى، مثل عاطف صدقى أو عاطف عبيد، ويفعل ذلك بمنتهى الصراحة، أو كان رجلا عنيدا كتوما، مثل كمال الجنزورى، يتصرف وكأنه صاحب رؤية لإصلاح الاقتصاد دون أن يكون كذلك فى الحقيقة، ومن ثم اكتفى بعمل أشياء صغيرة جيدة (كمنع هدم الفيللات لإقامة عمارات شاهقة بدلا منها)، ولم يستطع الوقوف أمام مشروع بدد كثيرا من الأموال فى الصحراء الغربية دون طائل (مثل مشروع توشكى).
لا مبالغة إذن فى القول بأن الشعور بالإحباط وخيبة الآمال استمر تقريبا طوال الثلاثين عاما كلها التى حكم فيها حسنى مبارك. فلما أتت ثورة 25 يناير 2011، كان لابد أن ترتفع الآمال من جديد إلى عنان السماء، بل لقد بالغنا فى التفاؤل بقدر ما عانينا طوال تلك الفترة الطويلة من التشاؤم. عندما استرجع ذكرى الأيام والشهور الأولى التالية لـ25 يناير 2011، بعد ان انقضى أكثر من ثلاث سنوات عليها، أشعر بالدهشة عندما أتذكر كيف كنا على استعداد لقبول أى شىء فى سبيل الاحتفاظ بتفاؤلنا بما يمكن ان ينتج عن هذه الثورة. قبلنا حكومات غريبة ينتمى رؤساؤها إلى النظام السابق، وقبل كثيرون الاشتراك فى حوارات تتكرر بلا أى جدوى، واشتركنا بحماس فى استفتاء على أشياء يجب أن يفترض أنه قد تم حسمها بقيام الثورة نفسها. ثم قبلنا الاشتراك فى انتخابات رئاسية للاختيار بين أمرين أحلاهما مر...إلخ، لا يمكن ان أخسر كل هذا إلا بحاجتنا الملحة إلى الفرح بعد ثلاثين عاما من الحزن. فكيف نفسر هذا التكرار الممل لهذا المسلسل العبثى من ارتفاع الآمال ثم سقوطها؟
•••
تفسير ذلك لا يحتاج فيما أظن إلى الكثير من التفكير ففى كل هذه الأمثلة المتعاقبة من الصعود والسقوط شىء واحد ثابت هو أننا لم نكن، طوال هذه الفترة التى تزيد على الستين عاما، نملك حرية الإرادة، رغم اننا كثيرا ما ظننا العكس، كانت خدعة كبيرة فى رأيى، تصوير حالنا بعد الحرب العالمية الثانية بأننا قد أصبحنا دولة مستقلة حقا، سواء قبل جلاء الإنجليز فى 1956 أو بعده. لقد استمر القهر والخضوع ولكن بأسماء أخرى. فى 1950 فرحنا بقدوم حكومة النحاس لأنها عادت بناء على انتخابات نزيهة، ونسينا أن الملك كان لايزال أقوى من النحاس لأنه كان يستند إلى قوة الإنجليز. وفى 1956 فرحنا بأننا استطعنا تأميم قناة السويس بقرار مستقل، وتجاهلنا أن هذا القرار كانت تؤيده الدولتان العظميان الجديدتان: الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتى. وفى 1967 استغربنا جدا من الهزيمة العسكرية الفادحة، مع أنها تبدو الآن حتمية إذ كان عبدالناصر يعلق آماله خطأ على أن الحرب الباردة قد تجنبه مثل هذه الهزيمة. ارتكب أنور السادات الخطأ العكسى بالضبط، فظن أن مراهنته بالكامل على إحدى القوتين، وهى الولايات المتحدة، ستضمن له عدم خيانتها له، فخانته ولم تحقق له ما علقه عليها من آمال وجرب حسنى مبارك ألا يشترك فى اللعبة على الإطلاق، وان يترك الأمور بالضبط كما كانت تسير عليه قبل مجيئه، فاستمرت بالفعل مثلما كانت قبل مجيئه، وأسفر ذلك عن تأييد الولايات المتحدة لثورة ضده، عندما كان نظامه قد استنفد أغراضها منه.
القصة محزنة طبعا، ولكن من أهم دروسها ألا نطمح بعد اليوم إلى التحليق إلى عنان السماء، قبل أن نتأكد من أن جناحينا ليسا مكبلين بالسلاسل.